*أمثلة عالمية خضراء :
عند التمعن في أوضاعنا البيئية الصارمة ومواردنا المحدودة ندرك بأن حاجتنا إلى تطبيقات العمارة الخضراء والإنشاءات المستدامة أكثر من الدول الصناعية المتقدمة. وإذا كانت كميات أشعة الشمس وحرارتها ووهجها في منطقتنا من أعلى المعدلات في العالم فإن هذا يعني وجود فرص ذهبية لتوظيفها كمصدر بديل لإنتاج الطاقة، بالإضافة إلى استغلالها في إضاءة المباني والمنشآت خلال ساعات النهار. ومع ذلك فنحن نسمع عن مباني منشأة في بعض البلدان التي تغيب عنها الشمس لأيام طويلة في السنة، وهذه المباني تعتمد بشكل أساسي في الإضاءة الداخلية على ضوء النهار الطبيعي حيث توفر نصف كمية الطاقة المستهلكة في الإضاءة، بينما نرى مبانينا التي تقبع تحت الشمس الحارقة والوهج الضوئي القوي مظلمة ومعتمة من الداخل وتعتمد فقط على الإضاءة الاصطناعية التي تضيف أعباء اقتصادية إلى فاتورة الكهرباء، بل إن تلك الدول قطعت أشواطاً متقدمة في تطبيقات استغلال الطاقة الشمسية كمصدر بديل للطاقة في المباني، بالإضافة إلى استغلال الرياح وشلالات المياه في إنتاج الطاقة.
يوجد في الدول الصناعية الكثير من المباني الكبرى التي تجسد مفهوم العمارة المستدامة الخضراء التي تقلل من التأثيرات على البيئة، ومنها مبنى برج (Conde Nast) المكون من (48 طابقاً) في ساحة التايمز في نيويورك، وهو مصمم بواسطة (فوكس وفول معماريون). إنه يعد أحد الأمثلة المبكرة التي طبقت مبادئ العمارة المستدامة الخضراء في مبنى حضري كبير، وقد استعملت فيه تقريباً جميع التقنيات التي يمكن تخيلها لتوفير الطاقة. فقد استخدم المبنى نوعية خاصة من الزجاج تسمح بدخول ضوء الشمس الطبيعي وتبقي الحرارة والأشعة فوق البنفسجية خارج المبنى، وتقلل من فقدان الحرارة الداخلية أثناء الشتاء. وهناك أيضاً خليتان تعملان على وقود الغاز الطبيعي تزودان المبنى بـ (400 كيلو واط) من الطاقة، وهو ما يكفي لتغذية المبنى بكل كمية الكهرباء التي يحتاجها ليلاً، بالإضافة إلى (5%) من كمية الكهرباء التي يحتاجها نهاراً. أما عادم الماء الحار فقد أنتج بواسطة خلايا الوقود المستخدمة للمساعدة على تسخين المبنى وتزويده بالماء الحار. بينما وضعت أنظمة التبريد والتكييف على السقف كمولد غاز أكثر من كونها مولد كهربائي، وهذا يخفض من فقدان الطاقة المرتبط بنقل الطاقة الكهربائية. كما أن لوحات (Photovoltaic Panels) الموجودة على المبنى من الخارج تزود المبنى بطاقة إضافية تصل إلى (15 كيلو واط). وداخل المبنى تتحكم حساسات الحركة بالمراوح وتطفىء الإضاءة في المناطق قليلة الإشغال مثل السلالم. أما إشارات الخروج فهي مضاءة بثنائيات خفيفة مخفضة لإستهلاك الطاقة. والنتيجة النهائية هي أن المبنى يستهلك طاقة أقل بنسبة (35-40%) مقارنة بأي مبنى تقليدي مماثل.
ومن الأمثلة الأخرى على العمارة الخضراء برج (The Swiss Re Tower) القابع في أحد شوارع مدينة لندن والمصمم بواسطة المعماري نورمان فوستر وشركاه، ويشير اللندنيون لهذا الصرح المعماري بأنه الإضافة الأحدث إلى خط أفق مدينتهم العريقة، وهذا البرج المنتصب كثمرة الخيار يتكون من (41 طابقاً)، إلا أن الشيء الرائع في هذا المبنى ليس شكله المعماري الجميل ولكن كفائته العالية في استهلاك الطاقة، فتصميمه المبدع والخلاق يحقق وفراً متوقعاً في استهلاك الطاقة يصل إلى (50%) من إجمالي الطاقة الذي تستهلكه بناية تقليدية مماثلة. ويتجلى غنى المبنى بمزايا توفير الطاقة في استعمال الإضاءة والتهوية الطبيعيتين كل ما أمكن ذلك. وتتكون واجهة المبنى من طبقتين من الزجاج (الخارجية منها عبارة عن زجاج مزدوج)، والطبقتان تحيطان بتجويف مهوى بالستائر الموجهة بالحاسب الآلي. كما أن نظام حساسات الطقس الموجود على المبنى من الخارج يراقب درجة الحرارة وسرعة الرياح ومستوى أشعة الشمس، ويقوم بغلق الستائر وفتح لوحات النوافذ عند الحاجة. أما شكل المبنى فهو مصمم بحيث يزيد من استعمال ضوء النهار الطبيعي، ويقلل من الحاجة للإضاءة الاصطناعية، ويتيح مشاهدة مناظر خارجية طبيعية حتى لمن هم في عمق المبنى من الداخل.
أما المبنى الأخضر الأكثر شهرة فهو موجود مؤقتاً على "لوحة الرسم" لحين إكمال مراحل إنشائه وهو برج الحرية الذي سيتم بناؤه في الموقع السابق لمبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك. المعماريون المصممون سكيدمور وأوينجز وميريل وإستوديو دانيال ليبيسكيند (Skidmore, Owings & Merrill and Studio Daniel Libeskind) قاموا بدمج مزايا التصميم البيئي في جميع أرجاء المبنى الضخم. وسيحوي البرج الرئيس والذي سيرتفع (1.776 قدم) الألواح الشمسية بالإضافة إلى محطة طاقــة هوائية (تعمل على الرياح)، التوربينـات يتوقـع أن تولـد حوالي (1 ميجا واط) من الطاقة، وهو ما يكفي لتغذية البرج بنسبة (20%) من احتياجه المتوقع من الطاقة. ومثل المباني الخضراء الأخرى فإن البرج سيعتمد على الإضاءة والتهوية الطبيعيتين، بالإضافة إلى أنظمة وعناصر الإنارة ذات الكفاءة العالية في استهلاك الطاقة.
العمارة المستدامة الخضراء والتراث العمراني:
مفهوم "العمارة المستدامة الخضراء" دخل حيز الاستعمال والرواج والانتشار في الأوساط المهنية في قطاعات صناعة البناء والتشييد في الدول الصناعية المتقدمة فقط في التسعينيات من القرن المنصرم، ولكن جذور هذه الحركة يمكن تتبعها لسنوات طويلة في العصور الماضية. فقد كانت الموارد المتاحة بما فيها الأرض ومواد البناء المحلية تستغل بكفاءة عالية، كما أنها قدمت معالجات بيئية ذكية أسهمت إلى حد كبير في خلق توافق بيئي بين المبنى والبيئة المحيطة، ومن تلك المعالجات العناية بتوجيهات المباني، وتوظيف طبوغرافية الأرض، واستخدام الأفنية الداخلية، والعرائش، والمشربيات، وملاقف الهواء، والعناية بأشكال وأحجام النوافذ والفتحات، والحوائط السميكة، والاعتماد على المواد المحلية كالطين والخشب، وجعل المباني متلاصقة ومتقاربة، بالإضافة إلى استغلال وتوظيف العناصر النباتية في التكييف البيئي والتقليل من وطأة الظروف المناخية. إن الفوائد والمزايا البيئية-الاقتصادية التي حققتها في الماضي عمارتنا المحلية هي بحد ذاتها صور وتطبيقات مبكرة لمفهوم العمارة المستدامة الخضراء. لذلك فإن المطلوب الآن هو تبني أفكار ودروس وعبر العمارة التقليدية من منظور بيئي-اقتصادي ومن ثم دراستها وتطويرها وتوظيفها في المباني الحديثة بما يتلائم مع احتياجات العصر والتقدم العلمي والتكنولوجي في أنظمة ومواد البناء.
كما أن هناك أمثلة عالمية قديمة للعمارة المستدامة الخضراء ومنها على سبيل المثال القصر البلوري أو الكريستال بالاس (Crystal Palace) في مدينة لندن والمبني عام 1851م، وغاليريا فيتوريو إمانويل ميلان الثانية (Milan's Galleria V. Emanuele II) المبني عام 1877م، فقد تم فيهما استخدام مراوح السقف والغرف المبردة بالهواء تحت الأرض لضبط درجة الحرارة الداخلية.
الممارسة المهنية الخضراء :
الإستدامة هي واحدة من أهم الاعتبارات التي يتم أخذها بالحسبان عند مزاولة المعماريين والمهندسين للمهنة في الدول الصناعية المتقدمة، وقد أصبح الحديث عن العمارة الخضراء والمباني المستدامة من الأمور المألوفة في الأوساط المهنية الهندسية في الكثير من الدول الصناعية المتقدمة، وكان ذلك متزامناً مع القلق المتزايد بشأن التأثيرات السلبية للبيئة المشيدة على الحالة البيئية لكوكب الأرض، بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية المتفاقمة نتيجة لارتفاع تكاليف الطاقة ومواد البناء. ولذلك فقد تبنى المهنيون أنفسهم تجريب مصادر الطاقة البديلة، وتطوير تقنيات خفض استهلاك الطاقة، وتقليل المخلفات والملوثات الصلبة والسائلة والغازية، بالإضافة إلى تطوير مواد وأساليب جديدة للتصميم والتنفيذ والتشغيل والصيانة. يقول المعماري جيمس ستيل في كتابه "العمارة الخضراء": "...الإستدامة تتطلب توظيف المهارات التي يستعملها المعماري بشكل أفضل كالتحليل، المقارنة، التأليف، والاستنتاج وهي تقود إلى الخيارات الجمالية التي لها أساس في الحقيقة بدلاً من الأنماط التشكيلية...".
لابد من التأكيد على أن مفاهيم وتطبيقات الإستدامة في صناعة البناء ليست ترفاً علمياً وإنما هي أسلوب عملي جديد للممارسة المهنية أثناء التصميم والإشراف. قبل كل شيء يجب أن نثير بعض الأسئلة عن الطرق المتبعة في تصميم وبناء مساكننا ومنشآتنا المعمارية، وما هي القرارات التصميمية التي يتخذها المعماري والمهندس عند بلورة فكرة التصميم واختيار أنظمة ومواد البناء، هذه القرارات التي تتخذ على عجل في أروقة المكاتب الهندسية والاستشارية تبدو ظاهرياً سهلة وروتينية، ولكنها في الحقيقة أصبحت تشكل خطورة كبيرة من حيث أنها تؤثر وبشكل مباشر على مستقبلنا البيئي والصحي والاقتصادي. ومعظم هذا القلق ينتهي إلى استعمال الموارد وأهمها الطاقة التي أصبحت تشكل عبئاً اقتصاديا كبيراً على الأفراد والمجتمعات والحكومات. والطاقة المستهلكة في أنشطة البناء لا تتوقف على عمليات التشغيل التقليدية لأن الطاقة مجسدة في مواد البناء نفسها، في استخراجها من الطبيعة وتصنيعها ونقلها وتركيبها وتجميع الفاقد والتخلص منه، وبعد ذلك تأتي عمليات التشغيل المتواصلة وتصبح الطاقة عبئاً اقتصادياً وبيئياً في نفس الوقت بسبب التلوث الناجم عن غازات البيت الزجاجي والانبعاث الأخرى. ثم هناك خسارة الجمال الطبيعي وتدمير الأنظمة الحيوية واستنزاف الموارد البيئية، وهذه جميعها تتزامن مع عمليات استخراج موارد الطاقة وخامات مواد البناء من الطبيعة.
عند التمعن في أوضاعنا البيئية الصارمة ومواردنا المحدودة ندرك بأن حاجتنا إلى تطبيقات العمارة الخضراء والإنشاءات المستدامة أكثر من الدول الصناعية المتقدمة. وإذا كانت كميات أشعة الشمس وحرارتها ووهجها في منطقتنا من أعلى المعدلات في العالم فإن هذا يعني وجود فرص ذهبية لتوظيفها كمصدر بديل لإنتاج الطاقة، بالإضافة إلى استغلالها في إضاءة المباني والمنشآت خلال ساعات النهار. ومع ذلك فنحن نسمع عن مباني منشأة في بعض البلدان التي تغيب عنها الشمس لأيام طويلة في السنة، وهذه المباني تعتمد بشكل أساسي في الإضاءة الداخلية على ضوء النهار الطبيعي حيث توفر نصف كمية الطاقة المستهلكة في الإضاءة، بينما نرى مبانينا التي تقبع تحت الشمس الحارقة والوهج الضوئي القوي مظلمة ومعتمة من الداخل وتعتمد فقط على الإضاءة الاصطناعية التي تضيف أعباء اقتصادية إلى فاتورة الكهرباء، بل إن تلك الدول قطعت أشواطاً متقدمة في تطبيقات استغلال الطاقة الشمسية كمصدر بديل للطاقة في المباني، بالإضافة إلى استغلال الرياح وشلالات المياه في إنتاج الطاقة.
يوجد في الدول الصناعية الكثير من المباني الكبرى التي تجسد مفهوم العمارة المستدامة الخضراء التي تقلل من التأثيرات على البيئة، ومنها مبنى برج (Conde Nast) المكون من (48 طابقاً) في ساحة التايمز في نيويورك، وهو مصمم بواسطة (فوكس وفول معماريون). إنه يعد أحد الأمثلة المبكرة التي طبقت مبادئ العمارة المستدامة الخضراء في مبنى حضري كبير، وقد استعملت فيه تقريباً جميع التقنيات التي يمكن تخيلها لتوفير الطاقة. فقد استخدم المبنى نوعية خاصة من الزجاج تسمح بدخول ضوء الشمس الطبيعي وتبقي الحرارة والأشعة فوق البنفسجية خارج المبنى، وتقلل من فقدان الحرارة الداخلية أثناء الشتاء. وهناك أيضاً خليتان تعملان على وقود الغاز الطبيعي تزودان المبنى بـ (400 كيلو واط) من الطاقة، وهو ما يكفي لتغذية المبنى بكل كمية الكهرباء التي يحتاجها ليلاً، بالإضافة إلى (5%) من كمية الكهرباء التي يحتاجها نهاراً. أما عادم الماء الحار فقد أنتج بواسطة خلايا الوقود المستخدمة للمساعدة على تسخين المبنى وتزويده بالماء الحار. بينما وضعت أنظمة التبريد والتكييف على السقف كمولد غاز أكثر من كونها مولد كهربائي، وهذا يخفض من فقدان الطاقة المرتبط بنقل الطاقة الكهربائية. كما أن لوحات (Photovoltaic Panels) الموجودة على المبنى من الخارج تزود المبنى بطاقة إضافية تصل إلى (15 كيلو واط). وداخل المبنى تتحكم حساسات الحركة بالمراوح وتطفىء الإضاءة في المناطق قليلة الإشغال مثل السلالم. أما إشارات الخروج فهي مضاءة بثنائيات خفيفة مخفضة لإستهلاك الطاقة. والنتيجة النهائية هي أن المبنى يستهلك طاقة أقل بنسبة (35-40%) مقارنة بأي مبنى تقليدي مماثل.
ومن الأمثلة الأخرى على العمارة الخضراء برج (The Swiss Re Tower) القابع في أحد شوارع مدينة لندن والمصمم بواسطة المعماري نورمان فوستر وشركاه، ويشير اللندنيون لهذا الصرح المعماري بأنه الإضافة الأحدث إلى خط أفق مدينتهم العريقة، وهذا البرج المنتصب كثمرة الخيار يتكون من (41 طابقاً)، إلا أن الشيء الرائع في هذا المبنى ليس شكله المعماري الجميل ولكن كفائته العالية في استهلاك الطاقة، فتصميمه المبدع والخلاق يحقق وفراً متوقعاً في استهلاك الطاقة يصل إلى (50%) من إجمالي الطاقة الذي تستهلكه بناية تقليدية مماثلة. ويتجلى غنى المبنى بمزايا توفير الطاقة في استعمال الإضاءة والتهوية الطبيعيتين كل ما أمكن ذلك. وتتكون واجهة المبنى من طبقتين من الزجاج (الخارجية منها عبارة عن زجاج مزدوج)، والطبقتان تحيطان بتجويف مهوى بالستائر الموجهة بالحاسب الآلي. كما أن نظام حساسات الطقس الموجود على المبنى من الخارج يراقب درجة الحرارة وسرعة الرياح ومستوى أشعة الشمس، ويقوم بغلق الستائر وفتح لوحات النوافذ عند الحاجة. أما شكل المبنى فهو مصمم بحيث يزيد من استعمال ضوء النهار الطبيعي، ويقلل من الحاجة للإضاءة الاصطناعية، ويتيح مشاهدة مناظر خارجية طبيعية حتى لمن هم في عمق المبنى من الداخل.
أما المبنى الأخضر الأكثر شهرة فهو موجود مؤقتاً على "لوحة الرسم" لحين إكمال مراحل إنشائه وهو برج الحرية الذي سيتم بناؤه في الموقع السابق لمبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك. المعماريون المصممون سكيدمور وأوينجز وميريل وإستوديو دانيال ليبيسكيند (Skidmore, Owings & Merrill and Studio Daniel Libeskind) قاموا بدمج مزايا التصميم البيئي في جميع أرجاء المبنى الضخم. وسيحوي البرج الرئيس والذي سيرتفع (1.776 قدم) الألواح الشمسية بالإضافة إلى محطة طاقــة هوائية (تعمل على الرياح)، التوربينـات يتوقـع أن تولـد حوالي (1 ميجا واط) من الطاقة، وهو ما يكفي لتغذية البرج بنسبة (20%) من احتياجه المتوقع من الطاقة. ومثل المباني الخضراء الأخرى فإن البرج سيعتمد على الإضاءة والتهوية الطبيعيتين، بالإضافة إلى أنظمة وعناصر الإنارة ذات الكفاءة العالية في استهلاك الطاقة.
العمارة المستدامة الخضراء والتراث العمراني:
مفهوم "العمارة المستدامة الخضراء" دخل حيز الاستعمال والرواج والانتشار في الأوساط المهنية في قطاعات صناعة البناء والتشييد في الدول الصناعية المتقدمة فقط في التسعينيات من القرن المنصرم، ولكن جذور هذه الحركة يمكن تتبعها لسنوات طويلة في العصور الماضية. فقد كانت الموارد المتاحة بما فيها الأرض ومواد البناء المحلية تستغل بكفاءة عالية، كما أنها قدمت معالجات بيئية ذكية أسهمت إلى حد كبير في خلق توافق بيئي بين المبنى والبيئة المحيطة، ومن تلك المعالجات العناية بتوجيهات المباني، وتوظيف طبوغرافية الأرض، واستخدام الأفنية الداخلية، والعرائش، والمشربيات، وملاقف الهواء، والعناية بأشكال وأحجام النوافذ والفتحات، والحوائط السميكة، والاعتماد على المواد المحلية كالطين والخشب، وجعل المباني متلاصقة ومتقاربة، بالإضافة إلى استغلال وتوظيف العناصر النباتية في التكييف البيئي والتقليل من وطأة الظروف المناخية. إن الفوائد والمزايا البيئية-الاقتصادية التي حققتها في الماضي عمارتنا المحلية هي بحد ذاتها صور وتطبيقات مبكرة لمفهوم العمارة المستدامة الخضراء. لذلك فإن المطلوب الآن هو تبني أفكار ودروس وعبر العمارة التقليدية من منظور بيئي-اقتصادي ومن ثم دراستها وتطويرها وتوظيفها في المباني الحديثة بما يتلائم مع احتياجات العصر والتقدم العلمي والتكنولوجي في أنظمة ومواد البناء.
كما أن هناك أمثلة عالمية قديمة للعمارة المستدامة الخضراء ومنها على سبيل المثال القصر البلوري أو الكريستال بالاس (Crystal Palace) في مدينة لندن والمبني عام 1851م، وغاليريا فيتوريو إمانويل ميلان الثانية (Milan's Galleria V. Emanuele II) المبني عام 1877م، فقد تم فيهما استخدام مراوح السقف والغرف المبردة بالهواء تحت الأرض لضبط درجة الحرارة الداخلية.
الممارسة المهنية الخضراء :
الإستدامة هي واحدة من أهم الاعتبارات التي يتم أخذها بالحسبان عند مزاولة المعماريين والمهندسين للمهنة في الدول الصناعية المتقدمة، وقد أصبح الحديث عن العمارة الخضراء والمباني المستدامة من الأمور المألوفة في الأوساط المهنية الهندسية في الكثير من الدول الصناعية المتقدمة، وكان ذلك متزامناً مع القلق المتزايد بشأن التأثيرات السلبية للبيئة المشيدة على الحالة البيئية لكوكب الأرض، بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية المتفاقمة نتيجة لارتفاع تكاليف الطاقة ومواد البناء. ولذلك فقد تبنى المهنيون أنفسهم تجريب مصادر الطاقة البديلة، وتطوير تقنيات خفض استهلاك الطاقة، وتقليل المخلفات والملوثات الصلبة والسائلة والغازية، بالإضافة إلى تطوير مواد وأساليب جديدة للتصميم والتنفيذ والتشغيل والصيانة. يقول المعماري جيمس ستيل في كتابه "العمارة الخضراء": "...الإستدامة تتطلب توظيف المهارات التي يستعملها المعماري بشكل أفضل كالتحليل، المقارنة، التأليف، والاستنتاج وهي تقود إلى الخيارات الجمالية التي لها أساس في الحقيقة بدلاً من الأنماط التشكيلية...".
لابد من التأكيد على أن مفاهيم وتطبيقات الإستدامة في صناعة البناء ليست ترفاً علمياً وإنما هي أسلوب عملي جديد للممارسة المهنية أثناء التصميم والإشراف. قبل كل شيء يجب أن نثير بعض الأسئلة عن الطرق المتبعة في تصميم وبناء مساكننا ومنشآتنا المعمارية، وما هي القرارات التصميمية التي يتخذها المعماري والمهندس عند بلورة فكرة التصميم واختيار أنظمة ومواد البناء، هذه القرارات التي تتخذ على عجل في أروقة المكاتب الهندسية والاستشارية تبدو ظاهرياً سهلة وروتينية، ولكنها في الحقيقة أصبحت تشكل خطورة كبيرة من حيث أنها تؤثر وبشكل مباشر على مستقبلنا البيئي والصحي والاقتصادي. ومعظم هذا القلق ينتهي إلى استعمال الموارد وأهمها الطاقة التي أصبحت تشكل عبئاً اقتصاديا كبيراً على الأفراد والمجتمعات والحكومات. والطاقة المستهلكة في أنشطة البناء لا تتوقف على عمليات التشغيل التقليدية لأن الطاقة مجسدة في مواد البناء نفسها، في استخراجها من الطبيعة وتصنيعها ونقلها وتركيبها وتجميع الفاقد والتخلص منه، وبعد ذلك تأتي عمليات التشغيل المتواصلة وتصبح الطاقة عبئاً اقتصادياً وبيئياً في نفس الوقت بسبب التلوث الناجم عن غازات البيت الزجاجي والانبعاث الأخرى. ثم هناك خسارة الجمال الطبيعي وتدمير الأنظمة الحيوية واستنزاف الموارد البيئية، وهذه جميعها تتزامن مع عمليات استخراج موارد الطاقة وخامات مواد البناء من الطبيعة.