إن جميع الكلام الموجود في القصة يدعو إلى التفكير فإن كنت تخاف
أن تفكر فالأجدر بك ألا تقرأ..
إلى التي تحدق إلى الشمس بأجفان جامدة وتقبض على
النار بأصابع غير مرتعشة وتسمع نغمة الروح الكلي من وراء
ضجيج العميان وصراخهم إلى الروح التي عانقت روحي إلى
القلب الذي سكب أسراره في قلبي إلى اليد التي أوقدت شعلة عواطفي
إلى التي سأحب أرفع تحياتي ومحبتي...وأهدي هذه القصة..:
( صراخ القبور )
تربع الأمير على منصة القضاء فجلس عقلاء بلاده عن
يمينه وشماله وعلى وجوههم المتجعدة تنعكس أوجه الكتب
والأسفار. وانتصب الجند حوله ممتشقين السيوف رافعين
الرماح. ووقف الناس أمامه بين متفرج أتى به حب الااستطلاع
ومترقب ينتظر الحكم في جريمة قريبة وجميعهم قد أحنو رقابهم
وخشعوا ببصائرهم وأمسكوا أنفاسهم كأن في عيني الأمير قوة
توعز الخوف وتوحي الرغبة الى نفوسهم وقلوبهم. حتى إذا
مااكتمل المجلس وأزفت ساعة الدينونة رفع الأمير يده وصرخ
قائلاً((احضروا المجرمين أمامي واحداً واحداً وأخبروني بذنوبهم
ومعاصيهم)). ففتح باب السجن وبانت جدرانه المظلمة مثلما
تظهر حنجرة الوحش الكاسر عندما يفتح كفيه متثائباً.
وتصاعدت من جوانبه قلقلة القيود والسلاسل متألفة مع أنين
الحبساء ونحيبهم. فحول الحاضرون أعينهم وتطاولت أعناقهم
كأنهم يريدون مسابقة الشريعة بنواظرهم ليروا فريسة الموت
خارجة من أعماق ذلك القبر.
وبعد هنيهة خرج من السجن جنديان يقودان فتى مكتوف الساعدين
يتكلم وجهه العابس وملامحه المنقبضة عن عزة في النفس وقوة في
القلب. وأوقفاه وسط المحكمة وتراجعا قليلاً إلى الوراء. فأحدق
به الأمير دقيقة ثم سأل قائلاً((ماجريمة هذا الرجل المنتصب أمامنا
برأس مرفوع كأنه في موقف الفخر لا في قبضة الدينونة))
فأجابه رجل من أعوانه قائلاً((هو قاتل شرير قد اعترض بالأمس
قائداً من قواد الأمير وجند له صريعاً إذ كان ذاهباً بمهمة بين القرى وقد
قبض عليه السيف المغمد بدماء القتيل مازال مشهوراً في يده)).
فتحرك الأمير غضباً فوق عرشه وتطايرت سهام الحنق من عينيه وصرخ
بأعلى صوته قائلاً((ارجعوه الى الظلمة وأثقلوا جسده بالقيود وعندما يجيء
فجر الغد اضربوا عنقه بحد سيفه ثم اطرحوا جثته في البرية
لتجردها العقبان والضواري وتحمل الرياح رائحة نتانتها الى أنوف أهله
ومحبيه)). أرجعوا الشاب الى السجن والناس يتبعونه بنظرات الاسف
والتنهيدات العميقة لأنه فتى في ربيع العمر حسن المظاهر قوي
البنية.
وخرج الجنديان ثانية من السجن يقودان صبية جميلة الوجه ضعيفة
الجسد قد وشح معانيها اصفرار اليأس والقنوط وغمرت عينيها
العبرات وألوت عنقها الندامة والحسرة.
فنظر إليها الأمير قائلاً((ومافعلت هذه الامرأة المهزولة الواقفة
أمامنا وقوف الظل بجانب الحقيقة؟)).
فأجابه أحد الجنود قائلاً((هي امرأة عاهرة قد فاجأها بعلها ليلاً
فوجدها بين ذراعي خليلها فأسلمها للشرطة بعد أنا فر أليفها
هارباً)).
فأحدق الأمير بها وهي مطرقة خجلاً ثم قال بشدة وقساوة
((ارجعوها الى الظلمة ومدودها على الفراش من الشوك لعلها
تذكر المضجع الذي دنسته بعيبها واسقوها الخل ممزوجاً بنقيع
العلقم عساها تذكر طعم القبل المحرمة. وعند مجيء الفجر جروها
عارية الى خارج المدينة وارجموها بالحجارة واتركوا جسدها
هناك لكي تتنعم بلحمائه الذئاب وتنخر عظامه الديدان والحشرات)).
توارت الصبية بظلمة السجن والحاضرون ينظرون اليها بين معجب
بعدل الأمير ومتأسف على جمالها وجهها الكئيب ورقة نظراتها المحزنة.
وظهر الجنديان ثالثة يقودان كهلاً ضعيفاً يسحب ركبتيه المرتعشتين
كأنهما خرقتان من أطراف ثوبه البالي ويلتفت جزعاً الى كل ناحية
ومن نظراته الموجعة تنبعث خيالات البؤس والفقر والتعاسة فالتفت الأمير
نحوه وقال بلهجة الاشمئزاز((وماذنب ها القذر الواقف كالميت بين الأحياء)).
فأجابه أحد الجنود قائلاً((هو لص سارق قد دخل الدير ليلاً فقبض عليه
الرهبان الاتقياء ووجدوا طي أثوابه أنية مذابحهم المقدسة)).
فنظر الأمير نظرة النسر الجائع إلى عصفور مكسور الجناحين
وصرخ قائلاً((أنزلوه إلى أعماق الظلمة وكبلوه بالحديد وعند مجيء
الفجر جروه الى شجرة عالية واشنقوه بحبل من اكتان واتركوا جسده معلقة
بين الأرض والسماء فتنثر العناصر أصابعه الاثيمة نثراً وتذري
الرياح أعضاءه نتفاً)).
أرجعوا اللص الى السجن والناس يهمسون بعضهم في أذان بعض
قائلين((كيف تجرأ هذا الضعيف الكافر على اختلاس أنية الدير المقدسة)).
ونزل الأمير عن كرسي القضاء فاتبعه العقلاء والمتشرعون وسار
الخند خلفه وأمامه وتبدد شمل المتفرجين وخلا ذلك المكان الا من عويل
المسجونين وزفرات القانطين المتمايلة كالخيالات على الجدران.
جرى كل ذلك وأنا واقف هناك وقوف المراة أمام الاشباح السائرة
مفكراً بالشرائع التي وضعها البشر للبشر متأملاً بما يحسبه الناس
عدلاً متعمقاً بأسرار الحياة باحثاً عن معنى الكيان. حتى اذا ما تضعضعت
أفكاري مثلما تتوارى خطوط الشفق بالضباب خرجت من ذاك المكان قائلاً
لذاتي الأعشاب تمتص عناصر التراب. والخروف يلتهم الأعشاب.
والذئب يفترس الخروف. ووحيد القرن يقتل الذئب والأسد يصيد وحيد القرن.
والموت يفنى الأسد.فهل توجد قوة تتغلب على الموت فتجعل سلسلة
هذه المظالم عدلاً سر مدياً!...
أتوجد قوة تحول جميع هذه الأسباب الكريهة الى نتائج جميلة أتوجد
قوة تقبض بكفها على جميع عناصر الحياة وتضمها الى ذاتها مبتسمة مثلما
يرجع البحر جميع السواقي إلى أعماقه مترنماً؟أتوجد قوة توقف
القاتل والمقتول والزانية وخليلها والسارق والمسورق منه أما محكمة أسمى
وأعلى من محكمة الأمير؟
وفي اليوم الثاني خرجت من المدينة وسرت بين الحقول حيث
تبيح السكينة للنفس ماتسه النفس ويميت طهر الفضاء جراثيم اليأس
والقنوط التي تولدها الشوارع الضيقة والمنازل المظلمة. ولما بلغت
طرف الوادي التفت فإذا بأجواق كثيرة من العقبان والغربان والنسور
تتطاير تارة وتهبط طوراً وقد ملأت الفضاء بنعابها وصفيرها وحفيف
أجنحتها. فتقدمت قليلاً مستطلعاً فرأيت أمامي جثة رجل معلقة على
شجرة عالية وجثة امرأة عارية مطروحة بين الحجارةالتي رجمت بها
وجثة فتى غارقق بالدماء المجبولة بالتراب وقد فصل رأسها عنها.
وقفت وهول المشهد يغشى بصيرتي بنقاب كثيف مظلم ونظرت
فلم أرى سوى خيال الموت المريع منتصباً بين الجثث الملطخة
بالدماء. وأصغيت فلم أسمع غير عويل العدم ممزوجاً بنعاب الغربان
الحائمة حول فريسة شرائع البشر ثلاثة من أبناء أدم كانوا بالأمس
على أحضان الحياة فأصبحوا اليوم في قبضة الموت.
ثلاثة أساؤا بعرف البشر الى الناموس فمدت الشريعة العمياء يدها
وسحقتهم بقساوة.
ثلاثة جعلهم الجهل مجرمين لأنهم ضعفاء فجعلتهم الشريعة امواتاً
لأنها قوية.
رجل فتك برجل أخر فقال الناس هذا قاتل وعندما فتك به الأمير
قال الناس هذا أمير عادل.
ورجل حاول أن يسلب الدير فقال الناس هذا لص شرير وعندما
سلبه الأمير حياته قالوا هذا أمير فاضل.
وامرأة خانت بعلها فقال الناس هي زانية عاهرة. ولكن عندما سيرها
الأمير عارية ورجمها على رؤوس الأشهاد قالوا هذا أمير شريف.
سفك الدماء محرم ولكن من حلله للأمير؟
سلب الأموال جريمة ولكن من جعل سلب الأرواح فضيلة؟
خيانة النساء قبيحة ولكن من صير رجم الأجساد جميلاً؟
أنقابل الشر بشر أعظم ونقول هذه هي الشريعة. ونقاتل الفساد
بفساد أعم ونهتف هذا هو الناموس. ونغالب الجريمة بجريمة أكبر.
ونصرخ هذا هو العدل؟ أما صرع عدواً في غابر حياته؟ أما سلب
مالاً أو عقاراً من أحد تابعيه الضعفاء؟ أما راود امرأة جميلة عن نفسها؟
وهل كان معصوماً عن هذه المحرمات فجاز له اعدام القاتل وشنق السارق
ورجم الزانية؟ ومن هم الذين رفعوا هذا اللص على الشجرة؟ أما
ملائكة نزلوا من السماء أم رجالاً يغتصبون ويسرقون كل ما تصل
اليه أيديهم؟
ومن قطع رأس هذا القاتل؟ أأنبياء هبطوا من العلاء أم جنود يقتلون
ويسفكون الدماء أينما حلوا؟
ومن رجم هذه الزانية؟أأناس طاهرون أتوا من صوامعهم أم بشر
يأتون المنكرات ويفعلون الرذائل مختبئين بستائر الظلام؟
الشريعة...وما هي الشريعة؟من رأها نازلة من نور الشمس من
أعماق السماء؟ وأ بشري رأى قلب الله فعلم مشيئته في البشر.
وفي أي جيل من الأجيال سار الملائكة بين الناس قائلين((احرموا
الضعفاء نور الحياة وافنوا الساقطين بحد السيف ودوسوا الخطأة
بأقدام من حديد)) وظلت هذه الأفكار تتزاحم على فكرتي وتتساهم
عواطفي حتى سمعت وطء أقدام قريبة مني فنظرت وإذا بصبية
قد ظهرت من بين الأشجار واقتربت من الجثث الثلاث متحذرة متلفتة
بخوف الى كل ناحية. حتى اذا مارأت رأس الفتى المقطوع صرخت جزعاً
وركعت بجانبه وطوقته بزنديها المرتجفتين وأخذت تستفرغ الدموع من عينيها
وتلامس شعره الجعدي بأطراف أصابعها وتنتحب بصوت عميق جارح
خارج من صميم الكبد ولما أنهكها البكاء وغلبتها الحسرات أسرعت تحفر
التراب بيديها حتى اذا ما حفرت قبراً وسيعاً وجرت إليه الفتى المصروع
ومددته على مهل موجع ووضعت رأسه المضرج بالدماء بين كتفيه وبعد
أن غمرته بالتراب غرست نصل السيف الذي قطع عنقه على قبره
وإذ همت بالإنصراف تقدمت نحوها فأجفلت وارتعشت خوفاً ثم
أطرقت والدمع السخين يتساقط كالمطر من مقلتيها قالت متنهدة
((اشكني إلى الأمير إن شئت فخير لي من أن أترك جسده طعاماً
لقشاعم الطير والوحوش الكواسر)) فأجبتها قائلاً((لاتخافي مني أيتها
المسكينة فأنا قد ندبت حظ فتاك قبلك بل خبريني كيف أنقذك من قبضة العار))
فقالت والغصص تقطع صوتها((جاء قائد الأمير الى حقولنا ليتقاضى
الضرائب ويجمع الجزية ولما رأني نظر الي نظرة استحسان مخيفة
ثم فرض ضريبة باهظة على حقل والدي الفقير يعجز الغني عن دفعها
فقبض علي ليقتادني قهراً الى صرح الأمير بدلا من الذهب فاسترحمته بدموعي
فلم يحفل واستحلفته بشيخوخة والدي فلم يرحم فصرخت مستغيثة
برجال القرية فجاء هذا الشاب وهو خطيبي وخلصني من بين يديه
القاسيتين فاستشاط غضباً وهم أن يفتك به فسبقه الشاب وامتشق سيفاً
معلقاً على الحائط وصرعه به مدافعاً عن حياته وعن عرضي ولكبر
نفسه لم يفر هارباً كالقتلة المجرمين بل لبث واقفاً بقرب جثة القائد
الظلوم حتى جاء الجند وساقوه إلى السجن مكبلاً بالقيود)).
قالت هذا ونظرت إلي نظرة تذيب الفؤاد وتثير الشجون وولت مسرعة
ورنات أصواتها الموجعة تولد بين تموجات الأثير اهتزازاً وارتعاشاً.
وبعد هنيهة نظرت فرأيت فتى في ربيع العمر يتقدم ساتراً وجهه بأثوابه
حتى اذا مابلغ جثة المرأة الزانية وقف بقربها وخلع عباءته وستر بها
أعضاءها العارية وأخذ يحفر الأرض بخنجر كان معه ثم حملها
بهدوء وواراها التراب ساكباً مع كل حفنة قطرة من أجفانه. ولما انتهى
من عمله جنى بعض الزهور النابتة هناك ووضعها على القبر منحنى
الرأس منخفض العارف. وإذا هم بالذهاب أوقفته قائلاً((مانسبة هذه
المرأة الساقطة اليك حتى سعيت مخالفاً ارادة الأمير ومخاطراً بحياتك
لكي تحمي جسدها المرضوض من طيور السماء والجوارح)).
فنظر إلي وأجفانه المقرحة من البكاء والسهر تتتكلم عن شدة حزنه
ولوعته وبصوت مخنوق ترافقه التنهيدات الاليمة قال((أنا هو ذلك الرجل
التعس الذي رجمت من أجله أحببتها وأحبتني مذ كنا صغيرين نلعب
بين المنازل. نمونا ونما الحب معنا حتى صار سيداً قوياً نخدمه بعواطف
قلبينا فيتسميلنا إليه ونهاية بسرائر روحينا فيضمنا الى صدره.
ففي يوم وقد كنت غالباً عن المدينة زوجها والدها كرهاً من رجل تكرهه
ولما رجعت وسمعت بالخبر تحولت أيامي الى ليل طويل حالك وصارت
حياتي نزاعاً مراً متواصلاً. وبقيت أصارع عواطفي وأغالب ميول نفسي
حتى تغلبت علي وقادتني مثلما يقود البصير ضريراً أعمى. فذهبت
الى حبيبتي سراً وأقصى مرامى أنا أرى نور عينيها وأسمع نغمة صوتها
فوجدتها منفردة تندب حظها وترثي أيامها فجلست والسكينة حديثنا
والعفاف ثالثنا ولم تمر ساعة حتى دخل زوجها فجأة ولما رأني أوعزت
اليه نياته القذرة فقبض على عنقها الأملس بكفيه القاسيتين وصرخ
بأعلى صوته((تعالوا وانظروا الزانية وعشيقها)) فهرول الجيران ثم
جاء الجند مستطلعين الخبر فأسلمها إلى أيديهم الخشنة فاقتادوها محلولة
الشعر ممزقة الأثواب. أما أنا فلم مسني أحد بضرر لأن الشريعة العمياء
والتقاليد الفاسدة تعاقب المرأة اذا سقطت أما الرجل فتسامحه.
وعاد الشاب نحو المدينة ساتراً وجهه بأثواب ولبثت أنا ناظراً متنهداً
وجثة اللص المشنوق ترتجف قليلاً كلما هز الهواء أغصان الشجرة
كأنها تسترحم بحراً كأرواح الفضاء لتهبط وتمددها على صدر الأرض
بجانب قتيل المروءة وشهيدة الحب.
وبعد ساعة ظهرت امرأة ضعيفة الجسم ترتدي خرقاً بالية ووقفت بقرب
المشنوق تقرع صدرها باكية ثم تسلقت الشجرة وقضمت حبل الكتان
بأسنانها فسقط الميت على الأرض سقوط الثوب البليل. فنزلت المرأة
وحفرت قبراً بجانب القبرين ووضعته فيه وبعد أن غمرته بالتراب أخذت
قطعتين من الخشب وصنعت منهما صليباً وغرسته فوق رأسه. ولما تحولت نحو
الوجهة التي جاءت منها أوقفتهاقائلاً((ماغرك أيتها الإمرأة فجئت تدفنين
لصاً سارقاً)).
فنظرت إلي بعينين غارقتين مكحولتين بأشباح الكأبة والشقاء وقالت
((هو زوجي الصالح ورفيقي الحنون ووالد أطفالي خمسة أطفال يتضورون
جوعاً أكبرهم في الثامنة وأصغرهم رضيع لم فطم...لم يكن زوجي لصاً بل
كان زراعاً يفلح أرض الدير ويستغلها ولايحصل من الرهبان إلا
على رغيف نتقاسمه عند المساء ولاتبقى منه لقمة الى الصباح...
مذ كان فتى وهو يسقى بعرق جبينه حقول الدير ويزرع عزم ساعديه
في بساتينه. ولما ضعف وانتهبت أعوام العمل قواه وراودت الأمراض
جسده أبعدوه قائلين((لم يعد الدير محتاجاً إليك فاذهب الأن وعندما يشب
أبناؤك ابعثهم إلينا لكي يأخذوا مكانك في الحقل)) فبكى وأبكاني واسترحمهم
باسم يسوع واستحلفهم بالملائكة والقديسين فلم يرحموه ولم يشفقوا عليه وعلي
وعلى صغارنا العراة الجائعين. فذهب يطلب عملاً في المدينة وعاد مطروداً
لأن سكان تلط القصور لايستخدمون إلا الفتيان الأقوياء. ثم جلس على قارعة
الطريق مستعطياً فلم يحسن إليه بل كانوا يمرون به قائلين((الصدقة لاتجوز
على مغلوب التواني والكسل)) ففي ليلة وقد برح العوز بنا حتى صار أطفالنا
يتلوون جوعاً على التراب. والرضيع بينهم يمص ثديي ولم يجد لبناً.
تغيرت ملامح زوجي وذهب مستتراً بالظلام ودخل قبواً من أقبية الدير
حيث يخزن الرهبان غلة الحقول وخمر الكروم وحمل زنبيلاً من الدقيق
على ظهره وهم بالرجوع إلينا. لكنه لم يسر بضع خطوات حتى استيقظ
القس من رقادهم وقبضوا عليه وأوسعوه ضرباً وشتماً وعندما جاء الصباح
أسلموه الى الجند قائلين((هذا لص شرير جاء لكي يسرق أنية الدير الذهبية))
فاقتاده الجند الى السجن ثم الى المشنقة ليملأوا أجواف العقبان من جسده
لأنه حاول أن يملأ أجواف صغاره الجياع من فضلات الغلة التي جناها
باتعابه إذ كان خادماً للدير)).
وذهبت المرأة الفقيرة ولكلامها المتقطع أشباح محزنة تتصاعد وتتسارع
الى كل ناحية كأنها أعمدة من الدخان يتلاعب بها الهواء.
وقفت بين القبور الثلاثة وقفة مؤمن ارتج عليه وانعقد لسانة لوعة
فانسكب دمعة متكلماً عن عواطفه. وحاولت التفكر والتأمل فعصتني
نفسي لأن النفس كالزهرة تضم أوراقها أمام الظلمة ولاتعطي أنفاسها
لخيالات الليل.
وقفت ومن دقائق تراب تلك القبور ينبثق صراخ التظلم انبثاق
الضباب من خلايا الأودية ويتموج حول مسامعي ليوحي إلي الكلام.
وقفت ساكناً ولو فهم الناس ماتقوله المسكينة لكانوا أقرب إلى الألهة
منهم إلى كواسر الغاب.
وقفت متنهداً ولو لامست شعلات تنهيداتي أشجار ذلك الحقل لتحركت
وتركت أماكنها وزحفت كتائب كتائب وحاربت بقضبانها الأمير وجنوده
وهدمت بجذوعها جدران الدير على رؤوس رهبانه.
وقفت ناظراً ومع نظراتي حلاوة الشفقة ومرارة الحزن على جوانب
تلك القبور الجديدة. قبر فتى دافع بحياته عن شرف عذراء ضعيفة
وأنقذها من بين أظافر ذئب كاسر فقطعوا عنقه جزاء شجاعته.
وقد أغمدت تلك الصبية سيفه بتراب قبره ليبقى هناك رمزاً يتكلم
أمام وجه الشمس عن مصيره الرجولة في دولة الحيف والغباوة وقبر
صبية لامس الحب قبل أن تغتصب المطامع جسدها فرجمت لأن قلبها
أبى أن يكون أميناً حتى الموت. وقد وضع حبيبها باقة من زهور الحقل
فوق جسدها الهامد لتتكلم بذبولها وفنائها البطيء عن مصير النفوس
التي يقدسها الحب بين قوم أعمتهم المادة وأخرسهم الجهل وقبر فقير
بائس أوهت ساعديه حقول الدير فطرده الرهبان ليستعيضوا عنها بسواعد
غيره. فطلب الخبز لصغاره بالعمل فلم يجده ثم رجاه بالتسول فلم ينله وعندما
دفعه اليأس الى استرجاع قليل من الغلة التي جمعها بأتعابه وعرق
جبينه قبضوا عليه وفتكوا به. وقد وضعت أرملته صليباً على قبره
ليستشهد في سكينة الليل نجوم السماء على ظلم رهبان يحولون تعاليم الناصرى
الى سيوف يقطعون بها الرقاب ويمزقون بحدودها السنينة أجسادها
المساكين والضعفاء.
وتوارت الشمس اذ ذاك وراء الشفق كأنها ملت متاعب البشر وكرهت
ظلمهم. وابتدأ المساء يحيك من خيوط الظل والسكون نقاباً ليلقيه على
جسد الطبيعة. فرفعت عيني إلى العلاء وبسطت يدي نحو القبور وماعليها
من الرموز وصرخت بأعلى صوتي((هذا هو سيفك أيتها الشجاعة فقد أغمد
بالتراب وهذه هي زهورك أيها الحب فقد لفحتها النيران وهذا هو صليبك
يايسوع الناصرى فقد غمرته ظلمة الليل)).
{تمت بحمد الله}
أن تفكر فالأجدر بك ألا تقرأ..
إلى التي تحدق إلى الشمس بأجفان جامدة وتقبض على
النار بأصابع غير مرتعشة وتسمع نغمة الروح الكلي من وراء
ضجيج العميان وصراخهم إلى الروح التي عانقت روحي إلى
القلب الذي سكب أسراره في قلبي إلى اليد التي أوقدت شعلة عواطفي
إلى التي سأحب أرفع تحياتي ومحبتي...وأهدي هذه القصة..:
( صراخ القبور )
تربع الأمير على منصة القضاء فجلس عقلاء بلاده عن
يمينه وشماله وعلى وجوههم المتجعدة تنعكس أوجه الكتب
والأسفار. وانتصب الجند حوله ممتشقين السيوف رافعين
الرماح. ووقف الناس أمامه بين متفرج أتى به حب الااستطلاع
ومترقب ينتظر الحكم في جريمة قريبة وجميعهم قد أحنو رقابهم
وخشعوا ببصائرهم وأمسكوا أنفاسهم كأن في عيني الأمير قوة
توعز الخوف وتوحي الرغبة الى نفوسهم وقلوبهم. حتى إذا
مااكتمل المجلس وأزفت ساعة الدينونة رفع الأمير يده وصرخ
قائلاً((احضروا المجرمين أمامي واحداً واحداً وأخبروني بذنوبهم
ومعاصيهم)). ففتح باب السجن وبانت جدرانه المظلمة مثلما
تظهر حنجرة الوحش الكاسر عندما يفتح كفيه متثائباً.
وتصاعدت من جوانبه قلقلة القيود والسلاسل متألفة مع أنين
الحبساء ونحيبهم. فحول الحاضرون أعينهم وتطاولت أعناقهم
كأنهم يريدون مسابقة الشريعة بنواظرهم ليروا فريسة الموت
خارجة من أعماق ذلك القبر.
وبعد هنيهة خرج من السجن جنديان يقودان فتى مكتوف الساعدين
يتكلم وجهه العابس وملامحه المنقبضة عن عزة في النفس وقوة في
القلب. وأوقفاه وسط المحكمة وتراجعا قليلاً إلى الوراء. فأحدق
به الأمير دقيقة ثم سأل قائلاً((ماجريمة هذا الرجل المنتصب أمامنا
برأس مرفوع كأنه في موقف الفخر لا في قبضة الدينونة))
فأجابه رجل من أعوانه قائلاً((هو قاتل شرير قد اعترض بالأمس
قائداً من قواد الأمير وجند له صريعاً إذ كان ذاهباً بمهمة بين القرى وقد
قبض عليه السيف المغمد بدماء القتيل مازال مشهوراً في يده)).
فتحرك الأمير غضباً فوق عرشه وتطايرت سهام الحنق من عينيه وصرخ
بأعلى صوته قائلاً((ارجعوه الى الظلمة وأثقلوا جسده بالقيود وعندما يجيء
فجر الغد اضربوا عنقه بحد سيفه ثم اطرحوا جثته في البرية
لتجردها العقبان والضواري وتحمل الرياح رائحة نتانتها الى أنوف أهله
ومحبيه)). أرجعوا الشاب الى السجن والناس يتبعونه بنظرات الاسف
والتنهيدات العميقة لأنه فتى في ربيع العمر حسن المظاهر قوي
البنية.
وخرج الجنديان ثانية من السجن يقودان صبية جميلة الوجه ضعيفة
الجسد قد وشح معانيها اصفرار اليأس والقنوط وغمرت عينيها
العبرات وألوت عنقها الندامة والحسرة.
فنظر إليها الأمير قائلاً((ومافعلت هذه الامرأة المهزولة الواقفة
أمامنا وقوف الظل بجانب الحقيقة؟)).
فأجابه أحد الجنود قائلاً((هي امرأة عاهرة قد فاجأها بعلها ليلاً
فوجدها بين ذراعي خليلها فأسلمها للشرطة بعد أنا فر أليفها
هارباً)).
فأحدق الأمير بها وهي مطرقة خجلاً ثم قال بشدة وقساوة
((ارجعوها الى الظلمة ومدودها على الفراش من الشوك لعلها
تذكر المضجع الذي دنسته بعيبها واسقوها الخل ممزوجاً بنقيع
العلقم عساها تذكر طعم القبل المحرمة. وعند مجيء الفجر جروها
عارية الى خارج المدينة وارجموها بالحجارة واتركوا جسدها
هناك لكي تتنعم بلحمائه الذئاب وتنخر عظامه الديدان والحشرات)).
توارت الصبية بظلمة السجن والحاضرون ينظرون اليها بين معجب
بعدل الأمير ومتأسف على جمالها وجهها الكئيب ورقة نظراتها المحزنة.
وظهر الجنديان ثالثة يقودان كهلاً ضعيفاً يسحب ركبتيه المرتعشتين
كأنهما خرقتان من أطراف ثوبه البالي ويلتفت جزعاً الى كل ناحية
ومن نظراته الموجعة تنبعث خيالات البؤس والفقر والتعاسة فالتفت الأمير
نحوه وقال بلهجة الاشمئزاز((وماذنب ها القذر الواقف كالميت بين الأحياء)).
فأجابه أحد الجنود قائلاً((هو لص سارق قد دخل الدير ليلاً فقبض عليه
الرهبان الاتقياء ووجدوا طي أثوابه أنية مذابحهم المقدسة)).
فنظر الأمير نظرة النسر الجائع إلى عصفور مكسور الجناحين
وصرخ قائلاً((أنزلوه إلى أعماق الظلمة وكبلوه بالحديد وعند مجيء
الفجر جروه الى شجرة عالية واشنقوه بحبل من اكتان واتركوا جسده معلقة
بين الأرض والسماء فتنثر العناصر أصابعه الاثيمة نثراً وتذري
الرياح أعضاءه نتفاً)).
أرجعوا اللص الى السجن والناس يهمسون بعضهم في أذان بعض
قائلين((كيف تجرأ هذا الضعيف الكافر على اختلاس أنية الدير المقدسة)).
ونزل الأمير عن كرسي القضاء فاتبعه العقلاء والمتشرعون وسار
الخند خلفه وأمامه وتبدد شمل المتفرجين وخلا ذلك المكان الا من عويل
المسجونين وزفرات القانطين المتمايلة كالخيالات على الجدران.
جرى كل ذلك وأنا واقف هناك وقوف المراة أمام الاشباح السائرة
مفكراً بالشرائع التي وضعها البشر للبشر متأملاً بما يحسبه الناس
عدلاً متعمقاً بأسرار الحياة باحثاً عن معنى الكيان. حتى اذا ما تضعضعت
أفكاري مثلما تتوارى خطوط الشفق بالضباب خرجت من ذاك المكان قائلاً
لذاتي الأعشاب تمتص عناصر التراب. والخروف يلتهم الأعشاب.
والذئب يفترس الخروف. ووحيد القرن يقتل الذئب والأسد يصيد وحيد القرن.
والموت يفنى الأسد.فهل توجد قوة تتغلب على الموت فتجعل سلسلة
هذه المظالم عدلاً سر مدياً!...
أتوجد قوة تحول جميع هذه الأسباب الكريهة الى نتائج جميلة أتوجد
قوة تقبض بكفها على جميع عناصر الحياة وتضمها الى ذاتها مبتسمة مثلما
يرجع البحر جميع السواقي إلى أعماقه مترنماً؟أتوجد قوة توقف
القاتل والمقتول والزانية وخليلها والسارق والمسورق منه أما محكمة أسمى
وأعلى من محكمة الأمير؟
وفي اليوم الثاني خرجت من المدينة وسرت بين الحقول حيث
تبيح السكينة للنفس ماتسه النفس ويميت طهر الفضاء جراثيم اليأس
والقنوط التي تولدها الشوارع الضيقة والمنازل المظلمة. ولما بلغت
طرف الوادي التفت فإذا بأجواق كثيرة من العقبان والغربان والنسور
تتطاير تارة وتهبط طوراً وقد ملأت الفضاء بنعابها وصفيرها وحفيف
أجنحتها. فتقدمت قليلاً مستطلعاً فرأيت أمامي جثة رجل معلقة على
شجرة عالية وجثة امرأة عارية مطروحة بين الحجارةالتي رجمت بها
وجثة فتى غارقق بالدماء المجبولة بالتراب وقد فصل رأسها عنها.
وقفت وهول المشهد يغشى بصيرتي بنقاب كثيف مظلم ونظرت
فلم أرى سوى خيال الموت المريع منتصباً بين الجثث الملطخة
بالدماء. وأصغيت فلم أسمع غير عويل العدم ممزوجاً بنعاب الغربان
الحائمة حول فريسة شرائع البشر ثلاثة من أبناء أدم كانوا بالأمس
على أحضان الحياة فأصبحوا اليوم في قبضة الموت.
ثلاثة أساؤا بعرف البشر الى الناموس فمدت الشريعة العمياء يدها
وسحقتهم بقساوة.
ثلاثة جعلهم الجهل مجرمين لأنهم ضعفاء فجعلتهم الشريعة امواتاً
لأنها قوية.
رجل فتك برجل أخر فقال الناس هذا قاتل وعندما فتك به الأمير
قال الناس هذا أمير عادل.
ورجل حاول أن يسلب الدير فقال الناس هذا لص شرير وعندما
سلبه الأمير حياته قالوا هذا أمير فاضل.
وامرأة خانت بعلها فقال الناس هي زانية عاهرة. ولكن عندما سيرها
الأمير عارية ورجمها على رؤوس الأشهاد قالوا هذا أمير شريف.
سفك الدماء محرم ولكن من حلله للأمير؟
سلب الأموال جريمة ولكن من جعل سلب الأرواح فضيلة؟
خيانة النساء قبيحة ولكن من صير رجم الأجساد جميلاً؟
أنقابل الشر بشر أعظم ونقول هذه هي الشريعة. ونقاتل الفساد
بفساد أعم ونهتف هذا هو الناموس. ونغالب الجريمة بجريمة أكبر.
ونصرخ هذا هو العدل؟ أما صرع عدواً في غابر حياته؟ أما سلب
مالاً أو عقاراً من أحد تابعيه الضعفاء؟ أما راود امرأة جميلة عن نفسها؟
وهل كان معصوماً عن هذه المحرمات فجاز له اعدام القاتل وشنق السارق
ورجم الزانية؟ ومن هم الذين رفعوا هذا اللص على الشجرة؟ أما
ملائكة نزلوا من السماء أم رجالاً يغتصبون ويسرقون كل ما تصل
اليه أيديهم؟
ومن قطع رأس هذا القاتل؟ أأنبياء هبطوا من العلاء أم جنود يقتلون
ويسفكون الدماء أينما حلوا؟
ومن رجم هذه الزانية؟أأناس طاهرون أتوا من صوامعهم أم بشر
يأتون المنكرات ويفعلون الرذائل مختبئين بستائر الظلام؟
الشريعة...وما هي الشريعة؟من رأها نازلة من نور الشمس من
أعماق السماء؟ وأ بشري رأى قلب الله فعلم مشيئته في البشر.
وفي أي جيل من الأجيال سار الملائكة بين الناس قائلين((احرموا
الضعفاء نور الحياة وافنوا الساقطين بحد السيف ودوسوا الخطأة
بأقدام من حديد)) وظلت هذه الأفكار تتزاحم على فكرتي وتتساهم
عواطفي حتى سمعت وطء أقدام قريبة مني فنظرت وإذا بصبية
قد ظهرت من بين الأشجار واقتربت من الجثث الثلاث متحذرة متلفتة
بخوف الى كل ناحية. حتى اذا مارأت رأس الفتى المقطوع صرخت جزعاً
وركعت بجانبه وطوقته بزنديها المرتجفتين وأخذت تستفرغ الدموع من عينيها
وتلامس شعره الجعدي بأطراف أصابعها وتنتحب بصوت عميق جارح
خارج من صميم الكبد ولما أنهكها البكاء وغلبتها الحسرات أسرعت تحفر
التراب بيديها حتى اذا ما حفرت قبراً وسيعاً وجرت إليه الفتى المصروع
ومددته على مهل موجع ووضعت رأسه المضرج بالدماء بين كتفيه وبعد
أن غمرته بالتراب غرست نصل السيف الذي قطع عنقه على قبره
وإذ همت بالإنصراف تقدمت نحوها فأجفلت وارتعشت خوفاً ثم
أطرقت والدمع السخين يتساقط كالمطر من مقلتيها قالت متنهدة
((اشكني إلى الأمير إن شئت فخير لي من أن أترك جسده طعاماً
لقشاعم الطير والوحوش الكواسر)) فأجبتها قائلاً((لاتخافي مني أيتها
المسكينة فأنا قد ندبت حظ فتاك قبلك بل خبريني كيف أنقذك من قبضة العار))
فقالت والغصص تقطع صوتها((جاء قائد الأمير الى حقولنا ليتقاضى
الضرائب ويجمع الجزية ولما رأني نظر الي نظرة استحسان مخيفة
ثم فرض ضريبة باهظة على حقل والدي الفقير يعجز الغني عن دفعها
فقبض علي ليقتادني قهراً الى صرح الأمير بدلا من الذهب فاسترحمته بدموعي
فلم يحفل واستحلفته بشيخوخة والدي فلم يرحم فصرخت مستغيثة
برجال القرية فجاء هذا الشاب وهو خطيبي وخلصني من بين يديه
القاسيتين فاستشاط غضباً وهم أن يفتك به فسبقه الشاب وامتشق سيفاً
معلقاً على الحائط وصرعه به مدافعاً عن حياته وعن عرضي ولكبر
نفسه لم يفر هارباً كالقتلة المجرمين بل لبث واقفاً بقرب جثة القائد
الظلوم حتى جاء الجند وساقوه إلى السجن مكبلاً بالقيود)).
قالت هذا ونظرت إلي نظرة تذيب الفؤاد وتثير الشجون وولت مسرعة
ورنات أصواتها الموجعة تولد بين تموجات الأثير اهتزازاً وارتعاشاً.
وبعد هنيهة نظرت فرأيت فتى في ربيع العمر يتقدم ساتراً وجهه بأثوابه
حتى اذا مابلغ جثة المرأة الزانية وقف بقربها وخلع عباءته وستر بها
أعضاءها العارية وأخذ يحفر الأرض بخنجر كان معه ثم حملها
بهدوء وواراها التراب ساكباً مع كل حفنة قطرة من أجفانه. ولما انتهى
من عمله جنى بعض الزهور النابتة هناك ووضعها على القبر منحنى
الرأس منخفض العارف. وإذا هم بالذهاب أوقفته قائلاً((مانسبة هذه
المرأة الساقطة اليك حتى سعيت مخالفاً ارادة الأمير ومخاطراً بحياتك
لكي تحمي جسدها المرضوض من طيور السماء والجوارح)).
فنظر إلي وأجفانه المقرحة من البكاء والسهر تتتكلم عن شدة حزنه
ولوعته وبصوت مخنوق ترافقه التنهيدات الاليمة قال((أنا هو ذلك الرجل
التعس الذي رجمت من أجله أحببتها وأحبتني مذ كنا صغيرين نلعب
بين المنازل. نمونا ونما الحب معنا حتى صار سيداً قوياً نخدمه بعواطف
قلبينا فيتسميلنا إليه ونهاية بسرائر روحينا فيضمنا الى صدره.
ففي يوم وقد كنت غالباً عن المدينة زوجها والدها كرهاً من رجل تكرهه
ولما رجعت وسمعت بالخبر تحولت أيامي الى ليل طويل حالك وصارت
حياتي نزاعاً مراً متواصلاً. وبقيت أصارع عواطفي وأغالب ميول نفسي
حتى تغلبت علي وقادتني مثلما يقود البصير ضريراً أعمى. فذهبت
الى حبيبتي سراً وأقصى مرامى أنا أرى نور عينيها وأسمع نغمة صوتها
فوجدتها منفردة تندب حظها وترثي أيامها فجلست والسكينة حديثنا
والعفاف ثالثنا ولم تمر ساعة حتى دخل زوجها فجأة ولما رأني أوعزت
اليه نياته القذرة فقبض على عنقها الأملس بكفيه القاسيتين وصرخ
بأعلى صوته((تعالوا وانظروا الزانية وعشيقها)) فهرول الجيران ثم
جاء الجند مستطلعين الخبر فأسلمها إلى أيديهم الخشنة فاقتادوها محلولة
الشعر ممزقة الأثواب. أما أنا فلم مسني أحد بضرر لأن الشريعة العمياء
والتقاليد الفاسدة تعاقب المرأة اذا سقطت أما الرجل فتسامحه.
وعاد الشاب نحو المدينة ساتراً وجهه بأثواب ولبثت أنا ناظراً متنهداً
وجثة اللص المشنوق ترتجف قليلاً كلما هز الهواء أغصان الشجرة
كأنها تسترحم بحراً كأرواح الفضاء لتهبط وتمددها على صدر الأرض
بجانب قتيل المروءة وشهيدة الحب.
وبعد ساعة ظهرت امرأة ضعيفة الجسم ترتدي خرقاً بالية ووقفت بقرب
المشنوق تقرع صدرها باكية ثم تسلقت الشجرة وقضمت حبل الكتان
بأسنانها فسقط الميت على الأرض سقوط الثوب البليل. فنزلت المرأة
وحفرت قبراً بجانب القبرين ووضعته فيه وبعد أن غمرته بالتراب أخذت
قطعتين من الخشب وصنعت منهما صليباً وغرسته فوق رأسه. ولما تحولت نحو
الوجهة التي جاءت منها أوقفتهاقائلاً((ماغرك أيتها الإمرأة فجئت تدفنين
لصاً سارقاً)).
فنظرت إلي بعينين غارقتين مكحولتين بأشباح الكأبة والشقاء وقالت
((هو زوجي الصالح ورفيقي الحنون ووالد أطفالي خمسة أطفال يتضورون
جوعاً أكبرهم في الثامنة وأصغرهم رضيع لم فطم...لم يكن زوجي لصاً بل
كان زراعاً يفلح أرض الدير ويستغلها ولايحصل من الرهبان إلا
على رغيف نتقاسمه عند المساء ولاتبقى منه لقمة الى الصباح...
مذ كان فتى وهو يسقى بعرق جبينه حقول الدير ويزرع عزم ساعديه
في بساتينه. ولما ضعف وانتهبت أعوام العمل قواه وراودت الأمراض
جسده أبعدوه قائلين((لم يعد الدير محتاجاً إليك فاذهب الأن وعندما يشب
أبناؤك ابعثهم إلينا لكي يأخذوا مكانك في الحقل)) فبكى وأبكاني واسترحمهم
باسم يسوع واستحلفهم بالملائكة والقديسين فلم يرحموه ولم يشفقوا عليه وعلي
وعلى صغارنا العراة الجائعين. فذهب يطلب عملاً في المدينة وعاد مطروداً
لأن سكان تلط القصور لايستخدمون إلا الفتيان الأقوياء. ثم جلس على قارعة
الطريق مستعطياً فلم يحسن إليه بل كانوا يمرون به قائلين((الصدقة لاتجوز
على مغلوب التواني والكسل)) ففي ليلة وقد برح العوز بنا حتى صار أطفالنا
يتلوون جوعاً على التراب. والرضيع بينهم يمص ثديي ولم يجد لبناً.
تغيرت ملامح زوجي وذهب مستتراً بالظلام ودخل قبواً من أقبية الدير
حيث يخزن الرهبان غلة الحقول وخمر الكروم وحمل زنبيلاً من الدقيق
على ظهره وهم بالرجوع إلينا. لكنه لم يسر بضع خطوات حتى استيقظ
القس من رقادهم وقبضوا عليه وأوسعوه ضرباً وشتماً وعندما جاء الصباح
أسلموه الى الجند قائلين((هذا لص شرير جاء لكي يسرق أنية الدير الذهبية))
فاقتاده الجند الى السجن ثم الى المشنقة ليملأوا أجواف العقبان من جسده
لأنه حاول أن يملأ أجواف صغاره الجياع من فضلات الغلة التي جناها
باتعابه إذ كان خادماً للدير)).
وذهبت المرأة الفقيرة ولكلامها المتقطع أشباح محزنة تتصاعد وتتسارع
الى كل ناحية كأنها أعمدة من الدخان يتلاعب بها الهواء.
وقفت بين القبور الثلاثة وقفة مؤمن ارتج عليه وانعقد لسانة لوعة
فانسكب دمعة متكلماً عن عواطفه. وحاولت التفكر والتأمل فعصتني
نفسي لأن النفس كالزهرة تضم أوراقها أمام الظلمة ولاتعطي أنفاسها
لخيالات الليل.
وقفت ومن دقائق تراب تلك القبور ينبثق صراخ التظلم انبثاق
الضباب من خلايا الأودية ويتموج حول مسامعي ليوحي إلي الكلام.
وقفت ساكناً ولو فهم الناس ماتقوله المسكينة لكانوا أقرب إلى الألهة
منهم إلى كواسر الغاب.
وقفت متنهداً ولو لامست شعلات تنهيداتي أشجار ذلك الحقل لتحركت
وتركت أماكنها وزحفت كتائب كتائب وحاربت بقضبانها الأمير وجنوده
وهدمت بجذوعها جدران الدير على رؤوس رهبانه.
وقفت ناظراً ومع نظراتي حلاوة الشفقة ومرارة الحزن على جوانب
تلك القبور الجديدة. قبر فتى دافع بحياته عن شرف عذراء ضعيفة
وأنقذها من بين أظافر ذئب كاسر فقطعوا عنقه جزاء شجاعته.
وقد أغمدت تلك الصبية سيفه بتراب قبره ليبقى هناك رمزاً يتكلم
أمام وجه الشمس عن مصيره الرجولة في دولة الحيف والغباوة وقبر
صبية لامس الحب قبل أن تغتصب المطامع جسدها فرجمت لأن قلبها
أبى أن يكون أميناً حتى الموت. وقد وضع حبيبها باقة من زهور الحقل
فوق جسدها الهامد لتتكلم بذبولها وفنائها البطيء عن مصير النفوس
التي يقدسها الحب بين قوم أعمتهم المادة وأخرسهم الجهل وقبر فقير
بائس أوهت ساعديه حقول الدير فطرده الرهبان ليستعيضوا عنها بسواعد
غيره. فطلب الخبز لصغاره بالعمل فلم يجده ثم رجاه بالتسول فلم ينله وعندما
دفعه اليأس الى استرجاع قليل من الغلة التي جمعها بأتعابه وعرق
جبينه قبضوا عليه وفتكوا به. وقد وضعت أرملته صليباً على قبره
ليستشهد في سكينة الليل نجوم السماء على ظلم رهبان يحولون تعاليم الناصرى
الى سيوف يقطعون بها الرقاب ويمزقون بحدودها السنينة أجسادها
المساكين والضعفاء.
وتوارت الشمس اذ ذاك وراء الشفق كأنها ملت متاعب البشر وكرهت
ظلمهم. وابتدأ المساء يحيك من خيوط الظل والسكون نقاباً ليلقيه على
جسد الطبيعة. فرفعت عيني إلى العلاء وبسطت يدي نحو القبور وماعليها
من الرموز وصرخت بأعلى صوتي((هذا هو سيفك أيتها الشجاعة فقد أغمد
بالتراب وهذه هي زهورك أيها الحب فقد لفحتها النيران وهذا هو صليبك
يايسوع الناصرى فقد غمرته ظلمة الليل)).
{تمت بحمد الله}