ارتبطت الدراسات المتعلقة بالعمارة في العصور الإسلامية المختلفة برؤى جزئية ، ترى الأجزاء المتفرقة دون جمعها تحت مظلة واحدة . ومن هنا نبعت هذه الدراسة لجمع هذه الأجزاء . في محاولة لفهمها وطرح رؤية تحلل أسباب وجود العديد من الأنماط المعمارية والتحول نحو أنماط معمارية جديدة.
والباحث يرى أن هناك ثلاث مستويات من العمائر في العمارة الإسلامية ، المستوى الأول : يتعلق بالسلطة ، ويتمثل فى مقر الحكم أى كان موقعه من العاصمة أو المدينة . والمستوى الثانى : يتعلق بالخدمات والمرافق داخل المدينة ، وهذا المستوى مشترك بين السلطة والمجتمع ، ويبرز بصفة خاصة فى مؤسسة يمكن أن نعتبرها وسيطة ، هى مؤسسة الأوقاف . والمستوى الثالث : عمائر المحكومين ، وهى لاتخضع لسيطرة السلطة إذ أن حركة العمران داخل الأحياء تخضع للسيطرة الجماعية لقاطنيها ولحقوق أفراد المجتمع .ويبقي ظل السلطة باقيا على نمط عمارة المجتمع متبلورا فيما عرف بالطراز المعماري فعرفنا طرازا معماريا فرعونيا اكتسب خصائصه من طبيعة السلطة في العصور الفرعونية ،وآخر آشوريا وثالث رومانيا .وفي النهاية تبقي طبيعة السلطة وما هيتها ومرجعيتها،هي المتحكمة في نمط الطراز المعماري .أما في العمارة الإسلامية فبالرغم من تنوع الدول التي حكمت العالم الإسلامي إلا أن الدين الإسلامي الذي شكل المرجعية الأساسية للعمارة والفنون المعمارية ظل هو المرجعية الأساسية للعمارة الإسلامية فعلي الرغم من تنوع طرز العمارة الإسلامية من الصين إلى الأندلس إلا أن روح الإسلام ظلت هي الغالبة على هذه الطرز ، فأصبحنا نري تنوعا معماريا مثيرا وملفتا للانتباه ، ولكن داخل هذا التنوع هناك وحدة حضارية لا تنفي خصوصية أي شعب وأي حضارة داخل العالم الإسلامي فالمسجد في الصين معماره اكتسب الروح الصينية بينما المسجد في الهند انطبع بالموروث المعماري الهندي والمسجد في شبه الجزيرة العربية كان له سمات تتسم بها الجزيرة العربية بينما المسجد في شرق أوربا له سمات نري فيها الروح الأوربية المعمارية ،ولكن كل هذه المساجد تتفق على سبيل المثال في وظيفتها كأماكن عبادة يصلي فيها خمس صلوات في اليوم وبكل منها وحدات معمارية ثابتة هي المحراب والمنبر والمئذنة ومكان الصلاة ،كما تتفق في استخدام الخط العربي كعنصر زخرفي أساسي .
العمارة ولغة العلماء
ونستطيع أن نحدد ما سبق ذكره من خلال تحديد الأدوار طبقا للغة علماء السياسة الشرعيةو الفقهاء . فالمدينة فى العصور الإسلامية تشكلت فيها المسئولية عن طريق الولاية أو ما نعرفه حاليا بالمسئولية ، فهناك ولاية عامة وولاية جماعية وولاية خاصة .فالولاية العامة دورها كان يتجسد فى أغلب الأحيان فى السلطة الحاكمة ونراه بصفة خاصة فى دار الإمارة والمسجد الجامع وأسوار المدن. والولاية الجماعية تظهر فى الهياكل الحضرية الوسيطة وإستمرارها كالأحياء السكنية والتنظيمات الحرفية والدروب المشتركة والملكيات الجماعية وغير ذلك . أما دور الولاية الخاصة فيرتبط بالحياة الفردية من بناء المساكن واستعمالها اليومى والتصرف فيها.
وموضوع هذه الدراسة يتعلق بالمستوى الأول إذ أن عمائره ترتبط بالسياسة إرتباطا وثيقا ، ونستطيع أن نقول إنها عمائر ذات طبيعة سياسية بحته ، وان تداخلت هذه الطبيعة مع عوامل أخرى كالعامل الدينى فى المسجد الجامع أو مساجد الصلوات الخمس ، أو عامل فقه العمارة أو قانون العمران عند وقوعها فى داخل المدن ....الخ . ولكنها فى النهاية منشآت ذات طبيعة سلطوية . و البحث يحاول أن يفسر طبيعة العلاقة بين العمارة والسلطة الحاكمة.
ولذا جاء عنوانها كما يلى " التحولات السياسية والعمارة " والمقصود بالتحولات إنتقال السلطة من جماعة إلى جماعة أو من فرد إلى فرد ، وهذا الإنتقال يكون له فى أغلب الأحوال أثر مباشر على العمارة ، يتضح بصفة خاصة فى مقر الحكم . وهذا المقر إما أن يستمر فى ضوء انتقال السلطة فى أداء دوره ووظائفه . أو تتغير طبيعة هذه الوظائف تبعا لمراسم وثقاليد السلطة الجديدة . أو يتغير التركيب الداخلى لهذا المقر تبعا لنمط السلطة الجديدة . أو ينتقل مقر الحكم إلى مكان آخر جديد بعيدا عن المقر القديم الذى يكون فى بعض الأحيان محاطا بأنصار السلطة القديمة . وقد يكون المقر الجديد محاولة من السلطة لاثبات وجودها على الساحة السياسية للبلاد . معطيات متعددة فى هذا المجال تحاول الدراسة استكشافها .
لقد وقف علماء السياسة الشرعية ، وهم المعنيين بالدراسات السياسية فى العصور الإسلامية عند الماوردى وكتابه " الأحكام السلطانية " وبقى كتابه لقرون طويلة الأساس المرجعى لتحديد مؤسسات الدولة الإسلامية . ولم يحاول أحد أن يرصد ما طرأ من تطور نتيجة لانتقال السلطة وتغير تركيبتها. ويعد مقر الحكم وما اشتمل عليه من معالم صورة يمكن من خلالها استكمال ما جاء فى كتاب الماوردى . الذى وقف عند نموذج بغداد .
كان الماوردى الذى عاش فى العصر العباسى ، منظرا لمقر الحكم فى صورته البسيطة والتى نراها فى الفسطاط ، ثم فى صورته الأكثر تركيبيا والتى نراها فى بغداد . لقد عبر تأسيس الفسطاط عن المشروع الفكرى والحضارى للدولة الإسلامية آنذاك ، فعمرو بن العاص أراد أن يكون مجتمع الفسطاط منفتحا على المجتمع المصرى لذا لم يشيد سورا للفسطاط بل جعلها مدينة مفتوحة وشجع الأقباط على الاقامة بها ، وشيدوا كنائس فيها . بينما حملت الدولة الفاطمية مشروعا يقوم على فرض الخلافة الفاطمية الاسماعيلية فى مصر ، ولذا كان مقر حكمهم منعزلا عن المصريين ، ولم يشرعوا فى كسب المجتمع إلا فى عصر ضعفهم حين شيدوا مشاهد وأضرحة لآل البيت لكسب العاطفة الدينية عند المصريين . وحمل صلاح الدين مشروعا دفاعيا فى وجه الهجمة الصليبية لذا بات تشييد قلعة الجبل والأسوار فى العاصمة المصرية همه الأول . بينما كانت دولة المماليك دولة تقوم على القوة العسكرية لأفرادها ، لذا بات الاستيلاء على مقر الحكم آنذاك استيلاءا على حكم مصر وبلاد الشام . وظلت القلعة رمزا للسلطة فى العصر العثمانى .
ومع مجىء محمد على بدأت المفاهيم السياسية فى التغير ، وأصبح دور الدولة يتعاظم داخل المجتمع ، حتى صارت حياة الأفراد مرهونة بسياسات الدولة ، ومع انتقال مقر الحكم إلى المدينة بعد سنوات من عزلته ، أصبحنا أمام نقله سياسية وعمرانية . فالحاكم الذى كان يتحصن خلف الأسوار ، أجبرته المدفعية على مغادرة الحصن . وصار مقر حكمه فى داخل المدينة وسط الناس متحصنا بالمدينة والناس . وتحولت المدينة كلها إلى مقر للحكم فبها قصر الحاكم والدواوين أو الوزرات . واستتبع هذا اخضاع المجتمع لسيطرة السلطة من خلال فكرة الدولة التى تنظم كل شىء وتحدد أهدافه طبقا لسياستها ، فأصبحت الشوارع منظمة والتعليم منظم ، وحتى وقت الناس خاضعا لفكرة النظام الذى يفرض هيمنة الدولة على كل شىء .
تقلص فى ضوء ما سبق دور الولاية الجماعية والولاية الخاصة إلى أبعد حد ممكن تصوره لصالح الدولة . فبعدما كانت حركة العمران تخضع لسلطة المجتمع المتمثلة فى فقه العمارة ، والتى كانت قانون يطبقه الجميع دون الرجوع للدولة . فرضت الدولة على المجتمع قوانين عمرانية ومعمارية وأنشئت جهاز يتولى تنفيذ هذه القوانين ورقابة حركة العمران فى المجتمع ، هو ديوان الأشغال .
لذا بات من الضرورى تحديد مفهوم التغييرفي العمارة ، فالتغيير يقصد به الخروج عن النمط المعتاد . أما التطور فهو احداث اضافات تتوائم مع المستجدات . وما حدث فى العصور الإسلامية المتلاحقة هو تطور طبيعى وتلقائى نتيجة للخبرة المتراكمة . أما ما حدث فى عصر أسرة محمد على في مصر ،وما حدث في باقي دول العالم الإسلامي فهو تغيير جذرى فى نمط الحكم وطبيعته وبالتالى فى طبيعة مقر الحكم وتركيبته . وان لم يجىء هذا دفعة واحدة، بل جاء على مراحل متتالية وصلت أوجها فى عصر الخديو اسماعيل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وتبلور في صورة أفقدت العمارة الإسلامية والمدن الإسلامية هويتها في القرن العشرين.
تقليد الغرب
نشأت في العالم الإسلامي حمي تقليد العمارة الغربية خاصة منذ أوائل القرن التاسع عشر،باعتبار هذا مظهرا من مظاهر مجاراة مدنية وحضارة أوربا .فكان الاهتمام بالشكل وطرازه وأعمدته وكرانيشه، وليس بالمغزي الحقيقي له ووظيفته والغرض منه ،فأصبحت العمارة بالتالي ،تفاصيل مأخوذة من الطرز الأوربية المختلفة حتي صار في مصر طراز يطلق عليه الطراز التلقيطي لأنه حوي عناصر من طرز متعددة دون الأرتكان إلى معلم معين له ودون شخصية مميزة ،وهذه التفاصيل يختارها المعماري تبعا لهواه ،أو تحقيقا لرغبة المالك ،ويكسو بها المباني كأنها أقنعة مستعارة .ولقد تسبب هذا كله في تواجد عدد كبير متنوع من الطرز الأوربية في مصر ،ظهرت كلها في وقت واحد ،فلم تكن هناك فترات تتميز باتجاه معين للمقلدين نحو استخدام طراز معين ،كما حدث في أوربا منذ منتصف القرن الثامن عشر بل وجدناها كلها في نفس الوقت وطغي استعمالها على الطراز الإسلامي .ومن الطرز التي عرفتها مصر الطراز اليوناني المستحدث ،طراز عصر النهضة المستحدث ،وقد ظهر في مصر ثلاثة أنواع من هذا الطراز ،هي : طراز عصر النهضة الفرنسي المستحدث الذي شيد على غراره قصر عابدين،ومن مميزات هذا الطراز الأسطح المستوية الخالية من التفاصيل،واتصف بالرزانة والتقشف فشابه ،في هذا ،أعمال رجال الحركة الكلاسيكية الرومانسية التي تميزت ،أيضا ،بقلة الزخارف واستعمال الأشكال الهندسية الواضحة ،طراز عصر النهضة الايطالي المستحدث،طراز عصر النهضة الانجليزي المستحدث .
عرفت مصر هذه الطرز منذ عصر محمدعلى ،وكانت العباسية أول ضاحية للعاصمة المصرية تخطط على غرار المدن الأوربية ،ولكن منذ عصر الخديو اسماعيل ترسخت هذه الطرز في مصر،وكان مشروع الخديو إسماعيل قد انطلق من رغبته في تهيئة العاصمة المصرية لحفل افتتاح قناة السويس .لذا سعي إلي إنشاء مدينة متأوربة على غرار باريس برز هذا في رسالة أرسلها إلى هوسمان مخطط باريس،إشتملت الرسالة على ما يلي :ـ
ـ نقل نهر النيل إلى وسط العاصمة ليحاكي نهر السين في باريس ،وإقامة الكباري عليه (قصر النيل وإمبابة وبولاق والروضة).
ـ إنشاء حديقة كبيرة وسط العاصمة (الأزبكية) مماثلة لحديقة لوكسمبورج ذات الأشجار النادرة.
ـ إنشاء أورمان أو غابة مماثلة لغابة بولونيا خارج باريس.
ـ إنشاء ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) على غرار ميدان (لوتوال الباريسي)ليتوسط العاصمة ويرتبط بقصر عابدين بشارع مستقيم وعريض كشارع الشانزليه.
ـ إنشاء مسرحين عظيمين على ميادين واسعة تماثل أوبرا باريس والكوميدي فرانسيز،فكانت دار الأوبرا المصريو وميدانها ،الكوميديا (المسرح القومي الآن) وميدان العتبة.
ـإنشاء متحف مماثل لمتحف اللوفر (الأنتكخانة) ودار الكتب المصرية لتكون مماثلة لمكتبة باريس الشهيرة.
ـ إنشاء الشوارع الحدائقية (الأهرام وشبرا) كشوارع للنزهة مماثلة لشوارع باريس،علاوة على دار الرصد الجوي والمساحة ومدرسة للمهندسخانة والجمعية الجغرافية .وإنشاء أول شبكة للمرافق للمدينة وتجميل المدينة بزراعة الأشجار والنخيل والنباتات وإقامة التماثيل وتطوير مدينة حلوان كمشتي عالمي ومنطقة الزمالك كمصيف سياحي .
ترتب على هذا إختفاء الطرز المعمارية المحلية ذات الصبغة العربية ،ونري إلياس الأيوبي يصف هذا بقوله ( غير أن صنعة عمل المشربيات والتفنن فيها أخذا يزولان شيئا فشيئا ،وتحل محلها الصنعة على الطراز الغربي ،حتي أصبح ثمن العينة فقط من الصنعة القديمة أغلي مما كان ثمن الشباك كله في عهد على بك الكبير ومحمد بك أبوالذهب )
نتيجة التغير الجذري في الأنشطة الإجتماعية وبالتالي في الأنشطة اليومية والعامة فقد تغير مفهوم العديد من وظائف المباني العامة التي كانت قائمة قبل عصر إسماعيل ولعل أبرز مثال لذلك هو التحول الذي حدث في الوظيفة التي كان يؤديها الخان أو الوكالة فتحولت إلى الفندق .فقد ظهر أول فندق في مصر وهو فندق شبرد كمثال لهذا التغيير الذي كانت تمارس فيه الأنشطة الإجتماعية في ثوبها الأوربي الجديد في القاهرة . كما تغيرت وظيفة البيمارستان إلى المستشفي ،وكان البيمارستان عادة ما يلحق بإحدي المنشآت الدينية كالبيمارستان القلاووني بالقاهرة الذي كان المرضي فقيرهم وغنيهم يعالج به بالمجان على حساب أوقاف البيمارستان التي كان أهل الثراء يزدونها بصفة مستمرة .وهو ما وفر رجة عاليه من درجات التكافل الإجتماعي .أما في نمط المستشفيات فقد تحول الطب إلى استثمار إقتصادي .بعد أن كان يمارس من منظور إنساني في الحضارة والعمارة الإسلامية.ويدل عودة العديد من المساجد في مصر في فترة السبعينات إلى إلحاق مستشفيات خيرية بها على مدي أهمية هذا البعد في ممارسة الطب .
حدث في مصر ومع ثورة 1919 م نمو في الوعي والذات المعمارية الوطنية وهو ما استتبعه ظهور طرز معمارية تناقض الطرز الغربية فاستخدم الطراز الإسلامي بصورة زخرفية تعتمد على استخدام العناصر المعمارية كعناصر زخرفية وظهر هذا جليا في معهد الموسيقي العربية ودار الحكمة (مقر نقابة الأطباء المصرية) وتم إحياء الطراز الفرعوني كما هو الحال في ضريح الزعيم المصري سعد زغلول
والباحث يرى أن هناك ثلاث مستويات من العمائر في العمارة الإسلامية ، المستوى الأول : يتعلق بالسلطة ، ويتمثل فى مقر الحكم أى كان موقعه من العاصمة أو المدينة . والمستوى الثانى : يتعلق بالخدمات والمرافق داخل المدينة ، وهذا المستوى مشترك بين السلطة والمجتمع ، ويبرز بصفة خاصة فى مؤسسة يمكن أن نعتبرها وسيطة ، هى مؤسسة الأوقاف . والمستوى الثالث : عمائر المحكومين ، وهى لاتخضع لسيطرة السلطة إذ أن حركة العمران داخل الأحياء تخضع للسيطرة الجماعية لقاطنيها ولحقوق أفراد المجتمع .ويبقي ظل السلطة باقيا على نمط عمارة المجتمع متبلورا فيما عرف بالطراز المعماري فعرفنا طرازا معماريا فرعونيا اكتسب خصائصه من طبيعة السلطة في العصور الفرعونية ،وآخر آشوريا وثالث رومانيا .وفي النهاية تبقي طبيعة السلطة وما هيتها ومرجعيتها،هي المتحكمة في نمط الطراز المعماري .أما في العمارة الإسلامية فبالرغم من تنوع الدول التي حكمت العالم الإسلامي إلا أن الدين الإسلامي الذي شكل المرجعية الأساسية للعمارة والفنون المعمارية ظل هو المرجعية الأساسية للعمارة الإسلامية فعلي الرغم من تنوع طرز العمارة الإسلامية من الصين إلى الأندلس إلا أن روح الإسلام ظلت هي الغالبة على هذه الطرز ، فأصبحنا نري تنوعا معماريا مثيرا وملفتا للانتباه ، ولكن داخل هذا التنوع هناك وحدة حضارية لا تنفي خصوصية أي شعب وأي حضارة داخل العالم الإسلامي فالمسجد في الصين معماره اكتسب الروح الصينية بينما المسجد في الهند انطبع بالموروث المعماري الهندي والمسجد في شبه الجزيرة العربية كان له سمات تتسم بها الجزيرة العربية بينما المسجد في شرق أوربا له سمات نري فيها الروح الأوربية المعمارية ،ولكن كل هذه المساجد تتفق على سبيل المثال في وظيفتها كأماكن عبادة يصلي فيها خمس صلوات في اليوم وبكل منها وحدات معمارية ثابتة هي المحراب والمنبر والمئذنة ومكان الصلاة ،كما تتفق في استخدام الخط العربي كعنصر زخرفي أساسي .
العمارة ولغة العلماء
ونستطيع أن نحدد ما سبق ذكره من خلال تحديد الأدوار طبقا للغة علماء السياسة الشرعيةو الفقهاء . فالمدينة فى العصور الإسلامية تشكلت فيها المسئولية عن طريق الولاية أو ما نعرفه حاليا بالمسئولية ، فهناك ولاية عامة وولاية جماعية وولاية خاصة .فالولاية العامة دورها كان يتجسد فى أغلب الأحيان فى السلطة الحاكمة ونراه بصفة خاصة فى دار الإمارة والمسجد الجامع وأسوار المدن. والولاية الجماعية تظهر فى الهياكل الحضرية الوسيطة وإستمرارها كالأحياء السكنية والتنظيمات الحرفية والدروب المشتركة والملكيات الجماعية وغير ذلك . أما دور الولاية الخاصة فيرتبط بالحياة الفردية من بناء المساكن واستعمالها اليومى والتصرف فيها.
وموضوع هذه الدراسة يتعلق بالمستوى الأول إذ أن عمائره ترتبط بالسياسة إرتباطا وثيقا ، ونستطيع أن نقول إنها عمائر ذات طبيعة سياسية بحته ، وان تداخلت هذه الطبيعة مع عوامل أخرى كالعامل الدينى فى المسجد الجامع أو مساجد الصلوات الخمس ، أو عامل فقه العمارة أو قانون العمران عند وقوعها فى داخل المدن ....الخ . ولكنها فى النهاية منشآت ذات طبيعة سلطوية . و البحث يحاول أن يفسر طبيعة العلاقة بين العمارة والسلطة الحاكمة.
ولذا جاء عنوانها كما يلى " التحولات السياسية والعمارة " والمقصود بالتحولات إنتقال السلطة من جماعة إلى جماعة أو من فرد إلى فرد ، وهذا الإنتقال يكون له فى أغلب الأحوال أثر مباشر على العمارة ، يتضح بصفة خاصة فى مقر الحكم . وهذا المقر إما أن يستمر فى ضوء انتقال السلطة فى أداء دوره ووظائفه . أو تتغير طبيعة هذه الوظائف تبعا لمراسم وثقاليد السلطة الجديدة . أو يتغير التركيب الداخلى لهذا المقر تبعا لنمط السلطة الجديدة . أو ينتقل مقر الحكم إلى مكان آخر جديد بعيدا عن المقر القديم الذى يكون فى بعض الأحيان محاطا بأنصار السلطة القديمة . وقد يكون المقر الجديد محاولة من السلطة لاثبات وجودها على الساحة السياسية للبلاد . معطيات متعددة فى هذا المجال تحاول الدراسة استكشافها .
لقد وقف علماء السياسة الشرعية ، وهم المعنيين بالدراسات السياسية فى العصور الإسلامية عند الماوردى وكتابه " الأحكام السلطانية " وبقى كتابه لقرون طويلة الأساس المرجعى لتحديد مؤسسات الدولة الإسلامية . ولم يحاول أحد أن يرصد ما طرأ من تطور نتيجة لانتقال السلطة وتغير تركيبتها. ويعد مقر الحكم وما اشتمل عليه من معالم صورة يمكن من خلالها استكمال ما جاء فى كتاب الماوردى . الذى وقف عند نموذج بغداد .
كان الماوردى الذى عاش فى العصر العباسى ، منظرا لمقر الحكم فى صورته البسيطة والتى نراها فى الفسطاط ، ثم فى صورته الأكثر تركيبيا والتى نراها فى بغداد . لقد عبر تأسيس الفسطاط عن المشروع الفكرى والحضارى للدولة الإسلامية آنذاك ، فعمرو بن العاص أراد أن يكون مجتمع الفسطاط منفتحا على المجتمع المصرى لذا لم يشيد سورا للفسطاط بل جعلها مدينة مفتوحة وشجع الأقباط على الاقامة بها ، وشيدوا كنائس فيها . بينما حملت الدولة الفاطمية مشروعا يقوم على فرض الخلافة الفاطمية الاسماعيلية فى مصر ، ولذا كان مقر حكمهم منعزلا عن المصريين ، ولم يشرعوا فى كسب المجتمع إلا فى عصر ضعفهم حين شيدوا مشاهد وأضرحة لآل البيت لكسب العاطفة الدينية عند المصريين . وحمل صلاح الدين مشروعا دفاعيا فى وجه الهجمة الصليبية لذا بات تشييد قلعة الجبل والأسوار فى العاصمة المصرية همه الأول . بينما كانت دولة المماليك دولة تقوم على القوة العسكرية لأفرادها ، لذا بات الاستيلاء على مقر الحكم آنذاك استيلاءا على حكم مصر وبلاد الشام . وظلت القلعة رمزا للسلطة فى العصر العثمانى .
ومع مجىء محمد على بدأت المفاهيم السياسية فى التغير ، وأصبح دور الدولة يتعاظم داخل المجتمع ، حتى صارت حياة الأفراد مرهونة بسياسات الدولة ، ومع انتقال مقر الحكم إلى المدينة بعد سنوات من عزلته ، أصبحنا أمام نقله سياسية وعمرانية . فالحاكم الذى كان يتحصن خلف الأسوار ، أجبرته المدفعية على مغادرة الحصن . وصار مقر حكمه فى داخل المدينة وسط الناس متحصنا بالمدينة والناس . وتحولت المدينة كلها إلى مقر للحكم فبها قصر الحاكم والدواوين أو الوزرات . واستتبع هذا اخضاع المجتمع لسيطرة السلطة من خلال فكرة الدولة التى تنظم كل شىء وتحدد أهدافه طبقا لسياستها ، فأصبحت الشوارع منظمة والتعليم منظم ، وحتى وقت الناس خاضعا لفكرة النظام الذى يفرض هيمنة الدولة على كل شىء .
تقلص فى ضوء ما سبق دور الولاية الجماعية والولاية الخاصة إلى أبعد حد ممكن تصوره لصالح الدولة . فبعدما كانت حركة العمران تخضع لسلطة المجتمع المتمثلة فى فقه العمارة ، والتى كانت قانون يطبقه الجميع دون الرجوع للدولة . فرضت الدولة على المجتمع قوانين عمرانية ومعمارية وأنشئت جهاز يتولى تنفيذ هذه القوانين ورقابة حركة العمران فى المجتمع ، هو ديوان الأشغال .
لذا بات من الضرورى تحديد مفهوم التغييرفي العمارة ، فالتغيير يقصد به الخروج عن النمط المعتاد . أما التطور فهو احداث اضافات تتوائم مع المستجدات . وما حدث فى العصور الإسلامية المتلاحقة هو تطور طبيعى وتلقائى نتيجة للخبرة المتراكمة . أما ما حدث فى عصر أسرة محمد على في مصر ،وما حدث في باقي دول العالم الإسلامي فهو تغيير جذرى فى نمط الحكم وطبيعته وبالتالى فى طبيعة مقر الحكم وتركيبته . وان لم يجىء هذا دفعة واحدة، بل جاء على مراحل متتالية وصلت أوجها فى عصر الخديو اسماعيل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وتبلور في صورة أفقدت العمارة الإسلامية والمدن الإسلامية هويتها في القرن العشرين.
تقليد الغرب
نشأت في العالم الإسلامي حمي تقليد العمارة الغربية خاصة منذ أوائل القرن التاسع عشر،باعتبار هذا مظهرا من مظاهر مجاراة مدنية وحضارة أوربا .فكان الاهتمام بالشكل وطرازه وأعمدته وكرانيشه، وليس بالمغزي الحقيقي له ووظيفته والغرض منه ،فأصبحت العمارة بالتالي ،تفاصيل مأخوذة من الطرز الأوربية المختلفة حتي صار في مصر طراز يطلق عليه الطراز التلقيطي لأنه حوي عناصر من طرز متعددة دون الأرتكان إلى معلم معين له ودون شخصية مميزة ،وهذه التفاصيل يختارها المعماري تبعا لهواه ،أو تحقيقا لرغبة المالك ،ويكسو بها المباني كأنها أقنعة مستعارة .ولقد تسبب هذا كله في تواجد عدد كبير متنوع من الطرز الأوربية في مصر ،ظهرت كلها في وقت واحد ،فلم تكن هناك فترات تتميز باتجاه معين للمقلدين نحو استخدام طراز معين ،كما حدث في أوربا منذ منتصف القرن الثامن عشر بل وجدناها كلها في نفس الوقت وطغي استعمالها على الطراز الإسلامي .ومن الطرز التي عرفتها مصر الطراز اليوناني المستحدث ،طراز عصر النهضة المستحدث ،وقد ظهر في مصر ثلاثة أنواع من هذا الطراز ،هي : طراز عصر النهضة الفرنسي المستحدث الذي شيد على غراره قصر عابدين،ومن مميزات هذا الطراز الأسطح المستوية الخالية من التفاصيل،واتصف بالرزانة والتقشف فشابه ،في هذا ،أعمال رجال الحركة الكلاسيكية الرومانسية التي تميزت ،أيضا ،بقلة الزخارف واستعمال الأشكال الهندسية الواضحة ،طراز عصر النهضة الايطالي المستحدث،طراز عصر النهضة الانجليزي المستحدث .
عرفت مصر هذه الطرز منذ عصر محمدعلى ،وكانت العباسية أول ضاحية للعاصمة المصرية تخطط على غرار المدن الأوربية ،ولكن منذ عصر الخديو اسماعيل ترسخت هذه الطرز في مصر،وكان مشروع الخديو إسماعيل قد انطلق من رغبته في تهيئة العاصمة المصرية لحفل افتتاح قناة السويس .لذا سعي إلي إنشاء مدينة متأوربة على غرار باريس برز هذا في رسالة أرسلها إلى هوسمان مخطط باريس،إشتملت الرسالة على ما يلي :ـ
ـ نقل نهر النيل إلى وسط العاصمة ليحاكي نهر السين في باريس ،وإقامة الكباري عليه (قصر النيل وإمبابة وبولاق والروضة).
ـ إنشاء حديقة كبيرة وسط العاصمة (الأزبكية) مماثلة لحديقة لوكسمبورج ذات الأشجار النادرة.
ـ إنشاء أورمان أو غابة مماثلة لغابة بولونيا خارج باريس.
ـ إنشاء ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) على غرار ميدان (لوتوال الباريسي)ليتوسط العاصمة ويرتبط بقصر عابدين بشارع مستقيم وعريض كشارع الشانزليه.
ـ إنشاء مسرحين عظيمين على ميادين واسعة تماثل أوبرا باريس والكوميدي فرانسيز،فكانت دار الأوبرا المصريو وميدانها ،الكوميديا (المسرح القومي الآن) وميدان العتبة.
ـإنشاء متحف مماثل لمتحف اللوفر (الأنتكخانة) ودار الكتب المصرية لتكون مماثلة لمكتبة باريس الشهيرة.
ـ إنشاء الشوارع الحدائقية (الأهرام وشبرا) كشوارع للنزهة مماثلة لشوارع باريس،علاوة على دار الرصد الجوي والمساحة ومدرسة للمهندسخانة والجمعية الجغرافية .وإنشاء أول شبكة للمرافق للمدينة وتجميل المدينة بزراعة الأشجار والنخيل والنباتات وإقامة التماثيل وتطوير مدينة حلوان كمشتي عالمي ومنطقة الزمالك كمصيف سياحي .
ترتب على هذا إختفاء الطرز المعمارية المحلية ذات الصبغة العربية ،ونري إلياس الأيوبي يصف هذا بقوله ( غير أن صنعة عمل المشربيات والتفنن فيها أخذا يزولان شيئا فشيئا ،وتحل محلها الصنعة على الطراز الغربي ،حتي أصبح ثمن العينة فقط من الصنعة القديمة أغلي مما كان ثمن الشباك كله في عهد على بك الكبير ومحمد بك أبوالذهب )
نتيجة التغير الجذري في الأنشطة الإجتماعية وبالتالي في الأنشطة اليومية والعامة فقد تغير مفهوم العديد من وظائف المباني العامة التي كانت قائمة قبل عصر إسماعيل ولعل أبرز مثال لذلك هو التحول الذي حدث في الوظيفة التي كان يؤديها الخان أو الوكالة فتحولت إلى الفندق .فقد ظهر أول فندق في مصر وهو فندق شبرد كمثال لهذا التغيير الذي كانت تمارس فيه الأنشطة الإجتماعية في ثوبها الأوربي الجديد في القاهرة . كما تغيرت وظيفة البيمارستان إلى المستشفي ،وكان البيمارستان عادة ما يلحق بإحدي المنشآت الدينية كالبيمارستان القلاووني بالقاهرة الذي كان المرضي فقيرهم وغنيهم يعالج به بالمجان على حساب أوقاف البيمارستان التي كان أهل الثراء يزدونها بصفة مستمرة .وهو ما وفر رجة عاليه من درجات التكافل الإجتماعي .أما في نمط المستشفيات فقد تحول الطب إلى استثمار إقتصادي .بعد أن كان يمارس من منظور إنساني في الحضارة والعمارة الإسلامية.ويدل عودة العديد من المساجد في مصر في فترة السبعينات إلى إلحاق مستشفيات خيرية بها على مدي أهمية هذا البعد في ممارسة الطب .
حدث في مصر ومع ثورة 1919 م نمو في الوعي والذات المعمارية الوطنية وهو ما استتبعه ظهور طرز معمارية تناقض الطرز الغربية فاستخدم الطراز الإسلامي بصورة زخرفية تعتمد على استخدام العناصر المعمارية كعناصر زخرفية وظهر هذا جليا في معهد الموسيقي العربية ودار الحكمة (مقر نقابة الأطباء المصرية) وتم إحياء الطراز الفرعوني كما هو الحال في ضريح الزعيم المصري سعد زغلول