بقلم م. نوف بنت محمد بن فهد بن عبد العزيز آل سعود
إن حقيقة تطور الأمم والمجتمعات تعتمد أساساً على مدى قدرتها على التلاؤم مع التغيرات اللازمة لتطوير نوعية استجابتها للتغيرات الخارجية والداخلية... وإذا اتجهت أنظارنا إلى تطور العمارة الإسلامية والتحولات الفكرية لها ومع مرور الزمن، فإننا نرى أن العمارة في بداية القرن الثامن عشر الميلادي احتفظت بهوية مميزة وواضحة حيث أنها كانت ترمز للمكان والزمان والحالة الاقتصادية للمنطقة ولم يكن هناك أزمة هوية أو إحساس ما بأن هناك حاجة إلى أن يتميز العالم العربي عن غيره ولكن حينما بدأ الغرب بالتدخل في العالم العربي في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي بدأت معالم الحضارة الإسلامية تتغير، فنتج عن ذلك عمران غريب الشكل والمبادئ والتخلي عن البيئة العمرانية التقليدية برغبة صانع القرار،وذلك سبب الصدمة الأولى وهي (صدمة الاحتكاك) .
وظهرت مشكلة أنا والآخر وحاجة المستخدم العربي أن يميز نفسه ويستعيد الهوية التي فقدها تحت شعار التحديث، لأنه عندما فرض الغرب المبادئ الغربية على المجتمع العربي أدى إلى انهيار الإطار الثقافي والفكري المتكامل في البيئة العمرانية التقليدية ، وأثبت عدم ملاءمته لحاجة المجتمع العربي. وكردة فعل للصدمة بدأت مرحلة أخرى وهي (صراع الحداثة والتقليد) والتي بدأت بتشكيل الكلاسيكية في العمارة ومحاولة إعادة إحياء التراث وإيجاد عمارة إقليمية أو محلية، ومحاولة لاستعاد جزء من الهوية المفقودة بالجمع بين التقنية والمعاصرة وشكل تقليدي للعمارة وهي في الفترة مابين (1900م- 1970). ومع بداية التقدم ظهرت مرحلة يمكن تسميتها سيطرة الكلاسيكية الجديدة التي تأثرت بعمارة ما بعد الحداثة الغربية إلا أن هذا التأثر كان شكلياً أكثر من كونه فكرياً وهي ردة فعل للمرحلة السابقة حيث تشكل الوعي بأن التميز لا يأتي من العودة المباشرة للتراث بل أن الهوية يجب أن تعكس واقع المجتمع الحالي وهي كانت الفترة مابين (1970 ـ 1990م).
أما في مرحلة مابين (1990 ـ اليوم) وهي فترة الظاهرة الإعصارية والتي تتمثل في النظام الاقتصادي الذي ينبع من المرحلة الرأسمالية الغربية التي تهيمن على اقتصاد العالم بعد تقهقر جميع الأنظمة الأخرى أمامها في الفترة الأخيرة كما تتمثل في ثورة العلوم بمجالاتها مثل الثورة المعلوماتية: وهي الثورة الرقمية (Digital Revolution) وهي دنيا المعلومات التي ربطت العالم من خلال شبكة المعلومات بشتى الخدمات فأصبح بإمكان الفرد أن يتصل بأي فرد آخر بالعالم والحصول على أية معلومات بسهولة بدون قيود زمان ولا مكان. والثورة الاقتصادية: هي ثورة ترتبت على المعلوماتية في عالم الأسواق ورؤوس الأموال. فقد خطت بخطى واسعة نحو ربط الاقتصاد العالمي بشبكة واحدة حيث أصبحت تضم 23 دولة عام 1948 وأسست ( منظمة الجات GATT ) التي تعني الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية التي قررت إلغاء حواجز التبادل التجاري والتعرفة الجمركية بين دول المنظمة.
وهناك الثورة التكنولوجية: وهي التزايد المتسارع والمتطور في عالم التكنولوجيا والتصنيع في جميع المجالات. وكل ما سبق يعتبر من أهم العوامل التي أدت إلى ظاهرة العولمة (Globaliztion). ولتلك الثورة تأثيرات بالغة على الفرد و المجتمع وخاصة على العمارة حيث أنها بعد الانغلاقية التي كانت تتسم بها المدن قديماً بالحصون والأسوار والانعزالية الشديدة ، نجدها في فترة من الفترات قد حطمت أسوارها وانفتح بعضها على بعض. ثم أتت ثورة العولمة لتربطها بخيوط هوائية عبر شبكات المعلومات وتجعل العالم كأنه قرية صغيرة وذلك طبعاً كان له تأثير واضح على العمارة حيث أصبحت جميع المباني الحديثة متشابهة ولا ترمز لهوية معينة أو مميزة.
ولأن العمارة تشكل أحد الروافد الثقافية التي يتم عن طريقها التعبير عن هوية الأمة لذلك فإن قضية « الهوية الثقافية» قضية بالغة الأهمية، لما لها من تأثير مباشر على هويتنا ككل فلو استطعنا تحديد هويتنا الثقافية الحقيقية وتمثلناها جيداً لاستطعنا أن نعرف بالتالي هل لنا هوية في نظامنا المعماري الحالي أم لا؟ الهوية، ببساطة، عبارة عن «مركب من العناصر المرجعية المادية والاجتماعية والذاتية المصطفاة التي تسمح بتعريف خاص للفاعل الاجتماعي (اليكس ميكشيللي). وطالما أنها مركب من عناصر ، فهي ضرورة متغيرة، في الوقت ذاته الذي تتميز فيه بثبات معين.
فالعربي اليوم مثلاً، ليس هو العربي قبل ألف عام ولكنه يبقى عربياً. أعتقد أن تراث المملكة العربية السعودية السابق له هوية واضحة ومميزة عن غيرها،خلافاً لعصرنا الحالي مع وجود التقنيات الحديثة ومواد البناء الجديدة والوفرة المادية ووجود التخصصات المتعددة في الجامعات والمعاهد، والأهم من ذلك هو أننا في عصر العولمة حيث الانفتاح أكبر على الثقافات الأخرى وتوفر وسائل الإعلام، فمن الطبيعي أن يكون هناك تغير ملموس في هوية عمارة المملكة. لأن الهوية متغير اجتماعي مثل أي متغير آخر ومحاولة تثبيتها ذهنياً ضمن عناصر منتقاة يقضي عليها في النهاية. ومن ناحية أخرى فإن الهوية ممارسة وسلوك قبل أن تكون تصوراً ذهنياً. فكما يقول الأنثرلوجي البولندي برونسلاف مالينوفسكي « دعنا ندرك أن التراث في الظروف البدائية ذو قيمة فائقة للمجتمع، ولاشئ مهم كالالتزام ومحافظة أفراده على هذا التراث.
فالاستقرار والحضارة يمكن المحافظة عليهما فقط لا من خلال الالتزام الوثيق بالتراث والمعرفة التي وصلت من أجيال سابقة وأن أي تراخ في هذا يضعف الالتزام لدى المجموعة ويعرض للخطر جدواها الثقافية إلى حد تهديد وجودها ذاته». فهل يعني هذا أنه مع تطور الطراز المعماري في المملكة تغيرت الهوية؟ أو أن الهوية قد فقدت؟ فالعولمة كما يقول بعضهم (هوية بلا هوية). فالغرب يريد فرض نموذجه وثقافته وسلوكياته وقيمه وأنماط استهلاكه وكل ما شابه ذلك على الآخرين، خاصة أنها تستخدم قوى الإمبراطورية الإعلامية، أن العولمة الثقافية تعني السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات باستثمار مكتسبات العلوم الثقافية في ميدان الاتصال. والثقافة الأمريكية هي المسيطرة على الثقافة الغربية وإن أكثر ما يلفت الانتباه في ظاهرة العولمة المدى الذي بلغته الثقافة الأمريكية من انتشار وسيطرة على أذواق الناس مثل انتشار الموسيقى والأفلام الأمريكية ونمط الملابس وحتى نمط المعيشة فهذا يؤثر على رغبة الفرد العربي في تصميم منزله وعمارته بشكل عام.
و الذي لا يرمز للخصوصية. لأن ما فعلته التكنولوجيا سلبت المستهلك الفرد حتى استسلم لها، وسلبت لب الأمم فضمت الواحدة بعد الأخرى. وعندما تلحق الثقافة بالعولمة يتبادر إلى الأذهان كلمة جديدة أصبحت تتردد كثيراً في المؤتمرات والندوات العالمية مثل الأمركة، أي تعميم النموذج الأمريكي للحياة، والتسلع أي تعميم قيم السوق على الفعاليات الثقافية وتحويل الثقافة إلى سلعة وتهديد الهوية الثقافية. ولأن الثقافة في ـ النسق الفكري الإسلامي ـ : هي كل ما يسهم في عمران النفس وتهذيبها،لذا فإن الثقافة هي تهذيب النفس الإنسانية بالأفكار والعقائد والقيم والآداب والفنون وهي عمران للنفس والواقع. ولكن إذا تساءلنا عن هوية ثقافتنا العربية الإسلامية: هل لها تأثير ملموس على العمارة الحالية؟ باعتقادي أن ثقافتنا لا تأثير لها على العمارة في الدول العربية لأن العولمة تجبر على لون معين من الحضارة ولا حرية فيها حيث أنها ببساطة هي أكذوبة القوي على الضعيف، وهي استدراج له إلى ساحات معقدة من ساحات التعايش الممكن، في الوقت الذي يعلم فيه أنه لا يدرك من قوانين تلك الساحات أي شئ. ولكن ذلك لا يعني أننا يجب أن نقبل بأن العولمة ظاهرة التوحد الثقافي والاقتصادي وأننا في طريقنا إلى أن يصبح هناك ثقافة عالمية أو كونية شاملة وأن لاشئ قادر على الوقوف في طريقها وأن الثقافات التقليدية لن تصنع شيئاً أمام ثقافة العولمة، لأنه يجب أن يكون هناك إحياء للثقافات وإعادة استخدامها في العمارة بطرق تتماشى مع العصر، ولا يمنع الاستفادة من بعض الثقافات الأخرى ، ذلك يجب أن تكون الجمعيات كما قال (فرانسيس فوكوياما) مؤلف كتاب (نهاية التاريخ) حين قال أن العولمة تقود إلى التجانس الثقافي ويؤكد أن المجتمعات تحافظ على سماتها المنفردة رغم الضغوط الاقتصادية، وأكد: إن الكثيرين يعتقدون أننا لتقدمنا في مجال تكنولوجيا الاتصالات ولقدرتنا على إنشاء ثقافة تلفزيونية سائدة عالمياً، سيقود هذا إلى تجانس ثقافي أعمق.
ولكني أعتقد أن العكس تماماً هو ما حدث. وفي اعتقادي أنه لن نصل إلى امتلاك هوية مميزة إلا بعد إدراك تلك الحقيقة العامة المتمثلة في أن ما قدمه التراث الغربي من نظريات هي في عمومها نظريات غير صالحة للتطبيق علينا، وعدم صلاحيتها نابع من أن لكل مجتمع ظروفه وقيمه الخاصة. ونحن حينما نطبق تلك النظريات الغربية على أنفسنا نخطأ هذا الخطأ المزدوج، خطأ عدم التميز بين النظرية والتطبيق،وخطأ يتمثل في عدم الثقة بالنفس وبالتالي فقدان القدرة الذاتية على العطاء والإبداع والإضافة، لذلك يجب الفصل بين التقليد الأعمى والاقتباس من الحضارات الأخرى، لأن الاعتماد على الغرب لبناء الذات خاطئ. ولكن للأسف في عمارتنا المعاصرة هناك إقتداء واضح بثقافة الغرب لأن المغلوب دائماً مولع بالإقتداء بالغالب، فالثقافة في الأسلوب الذي يتم به العمران أو الاستحلاف أو إقامة الحضارة والمدنية حيث هو انعكاس للفلسفة المعاشة للجماعة المنشئة للحضارة، وإن كان هدف أو جوهر الحضارات واحداً وهو عمارة الأرض فإن العمارة تخدم الحضارة كثيراً حيث أنها تنقل المعلومات بطريقة سريعة وتتبادل المتماثل في السلع والخدمات وكأن العالم قرية صغيرة ومن المفروض أننا نسعى لوحدة الحضارات وتعدد الثقافات.
وذلك يؤدي إلى طرح سؤل مهم وهو مدى الحاجة للعمارة المحلية أو الإقليمية في عصر العولمة؟ يذكر م. سمير داوود أنه ربما يكون المعماريين في دولة الإمارات من أؤلئك المحظوظين على مستوى العالم الذين شهدوا الحركة العالمية وعولمة العمارة والتغيرات المدهشة للبيئة. فنرى مدينتي دبي وأبوظبي صممتا وبنيتا في اتجاهين متصارعين. فمن جهة هناك الاتجاه الذي اعتمد على نقل الأشكال الغربية أو حتى استعارة عناصر من العمارة التقليدية. ومن جهة أخرى هناك الاتجاه التقدمي المستقبلي الذي ركز على التقنية العالمية واستجلاب المعماريين العالميين. ولكن قد حان الوقت لتوحيد الحوار المعماري للوصول إلى تعريف مناسب للعمارة المحلية ولنماذج معمارية صديقة للبيئة. فاليوم أصبح الميول والمهارة الفردية في التصميم والوعي الشخصي للمعماري المحلي هي المهمة لتمكنه من إعادة تعريف وتحديد أهدافه. لذلك فإن المحافظة على البيئة المحلية تمكننا من المحافظة على هويتها المحددة وطعمها المحلي. فبينما يتعلم المعماريون المحليون من الممارسة العالمية يجب أن يكونوا كذلك قادرين في نفس الوقت على توحيد ومراقبة تدفق المعلومات للشبكة العنكبوتية والإعلام الكوني.
ومن المباني المعاصرة للعولمة والتي أعطت مدينة الرياض طابعاً مميزاً لها « برج الفيصلية» الذي صممه أحد أشهر المعماريين في العالم (نورمان فوستر) ومركز المملكة، فهما يرمزان لنمو مدينة الرياض ويرسمان التحول الجديد في مقياس المدينة من خلال تكوينه البصري ووظائفه المتعددة ومن ناحية توزيع الفراغ أفقياً في المجال العمراني. وهذا كله تأثر باستراتيجية تخطيط المدن الحديثة عند الغرب حيث الرغبة في الفصل الوظيفي بين نشاطات الإنسانية المتعددة مثل السكن والعمل والترفيه والنقل وهذا المبنيان أصبحا مثل المعلم الجديد Land Mark في مدينة الرياض، ولكن هل هما يرمزان أو يعبران عن هوية المملكة المعاصرة ؟ لا طبعاً أنا باعتقادي أنهما يرمزان للتقدم الذي تحظى به السعودية والثراء أو الاستقرار المادي والقوة والرغبة في مواكبة العصر لأن الهوية ليست كياناً يعطي دفعة واحدة وإلى الأبد إنما هي حقيقة تولد وتنمو وتتكون وتتغاير وتشيخ وتعاني من الأزمات الوجودية والاستلاب، فهناك آلية يمكن تسميتها المقاومة الثقافية ومهمتها المحافظة على الهوية المحلية لأن أخطر استعمار هو الاستعمار الثقافي الذي يقوض جذور الثقافة المحلية ومن المؤكد أن المقاومة الثقافية ستشتد في عصر العولمة.
ويؤكد هذا الرأي (الينور ماسبيني) الذي يرى المقاومة الثقافية على أنها «قدرة المرء على معرفة ثقافته واعتراض ما يمكن أن يؤذيها، وهذا لا يعني بالضرورة تدمير الثقافات الأخرى أو قبولها دون قيد وإنما أخذ ما هو مقبول منها مع الاحتفاظ بالقدرة على معارضته الهيمنة». ومن ناحية اقتصادية بحتة، بدأ العالم يتحول أكثر فأكثر إلى كيان اقتصادي واحد لا يمكن أن ينفصل عن أجزائه وأدى إلى ظهور شركات عملاقة جداً متعولمة. ويعرف د. عابد الجابري العولمة الاقتصادية (Commercial Globalization) على أنها تركيز النشاط الاقتصادي على الصعيد العالمي في أيدي مجموعة قليلة العدد وبالتالي تهميش الباقي وإحداث التفاوت مابين الدول حتى داخل الدولة الواحدة وبالتالي تعميم الفقر كنتيجة حتمية للتفاوت من خلال استعمال السوق العالمية فإن كل المؤشرات الموضوعية تشير إلى أن العولمة الاقتصادية هي الأكثر اكتمالاً وهي الأكثر تحقيقاً على أرض الواقع من العولمة الثقافية أو السياسية.
فالمعنى المنتشر للعولمة الاقتصادية هو تكامل الاقتصاديات المتقدمة والنامية في سوق عالمية وحدة مفتوحة لكافة القوى الاقتصادية في العالم مما يعني أن العولمة تشمل مرحلة جديدة في التدويل (Internationalization). لذلك فالعولمة جعلت أي حديث عن ماركة وطنية حديثاً بلا معنى . ولكن من المميزات البارزة للعصر الراهن الثورة العلمية والتقنية والتي تزداد كل يوم وهذا التقدم هو الذي جعل العالم أكثر اندماجاً وهو الذي سهل انسياب حركة رؤوس الأموال والسلع والخدمات وإلى حد ما حركة الأفراد. ولقد شكل هذا متغيرات في حياة البشرية أدى ذلك إلى تطور المجتمعات، نجم عنها تحسين مستوى المعيشة. وتقريب الاتجاهات العالمية نحو تحرير أسواق التجارة ورأس المال، وإتاحة فرص النمو الاقتصادي على المستوى العالمي، وزيادة الإنتاج المحلي والعالمي.
ولكن المعارضين للعولمة والغير متحمسين لها يرون أن أهداف العولمة وأثارها هي: الهيمنة على اقتصاديات العالم من قبل الولايات المتحدة من خلال السعي للسيطرة من قبل الاحتكارات والشركات الأمريكية الكبرى على اقتصاد الدولة، وإلغاء النسيج الحضاري والاجتماعي للشعوب، وتدمير الهويات القومية و الثقافية للشعوب وزيادة الدول الغنية غنا بينما تزداد الدول الفقيرة فقراً، ومن الأمور المزعجة في العولمة خاصة فيما يتعلق بالمجتمعات العربية هو التدخل الأجنبي وبالتحديد الأمريكي ويرجع ذلك إلى ما تملكه من تفوق عسكري وشركات عملاقة ومؤسسات دولية وتطور تكنولوجي واقتصادي قوي، لذلك فإن العولمة قد قتلت السوق الوطني الذي كان إحدى مركزات سلطة الدولة والأمة.
أنا لا أعارض العولمة ليس كما قال (شيلوكدوس بيز) الذي قال إنه من الواضح أن تكون ضد العولمة ، أنه منطقي تماماً كما تشتكي حيال الطقس الرديء)، ولا كما ذكر مصطفى النشار، بأن منطق القوة هو السائد في عصر ما يسمونه بالعولمة والكوكبية أو باختصار القطب الواحد لأن العولمة آتية قدر مصيري علينا جميعاً. والتفكير فيها ليس ضرورياً قبل أو بعد حول مساوئ الاقتصاديات المعولمة، إذ لا يمكن إيقاف العولمة. لذلك يجب على المرء أن يفعل الأفضل وهو الاستفادة من تقنياتها ومعلوماتها وسهولة حصولها. ومثالاً على الفائدة من العولمة الاقتصادية في المملكة العربية السعودية هي أعمال التوسعة المعمارية والإنشائية في الحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة حيث أن الأعمال الكهربائية ( التي تشمل الإنارة ومكبرات الصوت ونظام التحكم الأتوماتيكي) والأعمال الميكانيكية ( مثل أنظمة تكييف الهواء ، ومضخات شرب المياه المبرد وأنظمة مكافحة الحريق بالإضافة إلى شبكات صرف مياه الأمطار والصرف الصحي). وأيضاً استخدام التقنية في تصميم وإنشاء الحرم حيث الاستعانة بالحاسب الآلي لأخذ كل الاعتبارات اللازمة والعلاقات المعقدة بما في ذلك العوامل المتوقعة في المستقبل لإنجاز التصميم بدقة وسرعة فائقة .
والأهم من ذلك التقنية في تصنيع المواد حيث تم تحضير كميات هائلة من مواد كثيرة ومتنوعة للمشروع وذلك باستخدام أحدث التقنيات في العالم وأضخم المعدات المتوفرة وللمحافظة على المسجد فهناك التقنية في نظام إدارة الصيانة لتأمين الراحة والأمان للحجاج والمصلين. فكل ما ذكر يدل علي مدى التقدم التكنولوجي الذي وصل إليه العالم في عصر العولمة، وهذا في نظري لا يغير من هوية المسجد أو معناه بل يزيد من فعالية استخداماته لأن العناصر الأساسية التي ترمز للمسجد مثل المئذنة والقبة وساحة الصلاة موجودة في الحرم النبوي.
إن حقيقة تطور الأمم والمجتمعات تعتمد أساساً على مدى قدرتها على التلاؤم مع التغيرات اللازمة لتطوير نوعية استجابتها للتغيرات الخارجية والداخلية... وإذا اتجهت أنظارنا إلى تطور العمارة الإسلامية والتحولات الفكرية لها ومع مرور الزمن، فإننا نرى أن العمارة في بداية القرن الثامن عشر الميلادي احتفظت بهوية مميزة وواضحة حيث أنها كانت ترمز للمكان والزمان والحالة الاقتصادية للمنطقة ولم يكن هناك أزمة هوية أو إحساس ما بأن هناك حاجة إلى أن يتميز العالم العربي عن غيره ولكن حينما بدأ الغرب بالتدخل في العالم العربي في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي بدأت معالم الحضارة الإسلامية تتغير، فنتج عن ذلك عمران غريب الشكل والمبادئ والتخلي عن البيئة العمرانية التقليدية برغبة صانع القرار،وذلك سبب الصدمة الأولى وهي (صدمة الاحتكاك) .
وظهرت مشكلة أنا والآخر وحاجة المستخدم العربي أن يميز نفسه ويستعيد الهوية التي فقدها تحت شعار التحديث، لأنه عندما فرض الغرب المبادئ الغربية على المجتمع العربي أدى إلى انهيار الإطار الثقافي والفكري المتكامل في البيئة العمرانية التقليدية ، وأثبت عدم ملاءمته لحاجة المجتمع العربي. وكردة فعل للصدمة بدأت مرحلة أخرى وهي (صراع الحداثة والتقليد) والتي بدأت بتشكيل الكلاسيكية في العمارة ومحاولة إعادة إحياء التراث وإيجاد عمارة إقليمية أو محلية، ومحاولة لاستعاد جزء من الهوية المفقودة بالجمع بين التقنية والمعاصرة وشكل تقليدي للعمارة وهي في الفترة مابين (1900م- 1970). ومع بداية التقدم ظهرت مرحلة يمكن تسميتها سيطرة الكلاسيكية الجديدة التي تأثرت بعمارة ما بعد الحداثة الغربية إلا أن هذا التأثر كان شكلياً أكثر من كونه فكرياً وهي ردة فعل للمرحلة السابقة حيث تشكل الوعي بأن التميز لا يأتي من العودة المباشرة للتراث بل أن الهوية يجب أن تعكس واقع المجتمع الحالي وهي كانت الفترة مابين (1970 ـ 1990م).
أما في مرحلة مابين (1990 ـ اليوم) وهي فترة الظاهرة الإعصارية والتي تتمثل في النظام الاقتصادي الذي ينبع من المرحلة الرأسمالية الغربية التي تهيمن على اقتصاد العالم بعد تقهقر جميع الأنظمة الأخرى أمامها في الفترة الأخيرة كما تتمثل في ثورة العلوم بمجالاتها مثل الثورة المعلوماتية: وهي الثورة الرقمية (Digital Revolution) وهي دنيا المعلومات التي ربطت العالم من خلال شبكة المعلومات بشتى الخدمات فأصبح بإمكان الفرد أن يتصل بأي فرد آخر بالعالم والحصول على أية معلومات بسهولة بدون قيود زمان ولا مكان. والثورة الاقتصادية: هي ثورة ترتبت على المعلوماتية في عالم الأسواق ورؤوس الأموال. فقد خطت بخطى واسعة نحو ربط الاقتصاد العالمي بشبكة واحدة حيث أصبحت تضم 23 دولة عام 1948 وأسست ( منظمة الجات GATT ) التي تعني الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية التي قررت إلغاء حواجز التبادل التجاري والتعرفة الجمركية بين دول المنظمة.
وهناك الثورة التكنولوجية: وهي التزايد المتسارع والمتطور في عالم التكنولوجيا والتصنيع في جميع المجالات. وكل ما سبق يعتبر من أهم العوامل التي أدت إلى ظاهرة العولمة (Globaliztion). ولتلك الثورة تأثيرات بالغة على الفرد و المجتمع وخاصة على العمارة حيث أنها بعد الانغلاقية التي كانت تتسم بها المدن قديماً بالحصون والأسوار والانعزالية الشديدة ، نجدها في فترة من الفترات قد حطمت أسوارها وانفتح بعضها على بعض. ثم أتت ثورة العولمة لتربطها بخيوط هوائية عبر شبكات المعلومات وتجعل العالم كأنه قرية صغيرة وذلك طبعاً كان له تأثير واضح على العمارة حيث أصبحت جميع المباني الحديثة متشابهة ولا ترمز لهوية معينة أو مميزة.
ولأن العمارة تشكل أحد الروافد الثقافية التي يتم عن طريقها التعبير عن هوية الأمة لذلك فإن قضية « الهوية الثقافية» قضية بالغة الأهمية، لما لها من تأثير مباشر على هويتنا ككل فلو استطعنا تحديد هويتنا الثقافية الحقيقية وتمثلناها جيداً لاستطعنا أن نعرف بالتالي هل لنا هوية في نظامنا المعماري الحالي أم لا؟ الهوية، ببساطة، عبارة عن «مركب من العناصر المرجعية المادية والاجتماعية والذاتية المصطفاة التي تسمح بتعريف خاص للفاعل الاجتماعي (اليكس ميكشيللي). وطالما أنها مركب من عناصر ، فهي ضرورة متغيرة، في الوقت ذاته الذي تتميز فيه بثبات معين.
فالعربي اليوم مثلاً، ليس هو العربي قبل ألف عام ولكنه يبقى عربياً. أعتقد أن تراث المملكة العربية السعودية السابق له هوية واضحة ومميزة عن غيرها،خلافاً لعصرنا الحالي مع وجود التقنيات الحديثة ومواد البناء الجديدة والوفرة المادية ووجود التخصصات المتعددة في الجامعات والمعاهد، والأهم من ذلك هو أننا في عصر العولمة حيث الانفتاح أكبر على الثقافات الأخرى وتوفر وسائل الإعلام، فمن الطبيعي أن يكون هناك تغير ملموس في هوية عمارة المملكة. لأن الهوية متغير اجتماعي مثل أي متغير آخر ومحاولة تثبيتها ذهنياً ضمن عناصر منتقاة يقضي عليها في النهاية. ومن ناحية أخرى فإن الهوية ممارسة وسلوك قبل أن تكون تصوراً ذهنياً. فكما يقول الأنثرلوجي البولندي برونسلاف مالينوفسكي « دعنا ندرك أن التراث في الظروف البدائية ذو قيمة فائقة للمجتمع، ولاشئ مهم كالالتزام ومحافظة أفراده على هذا التراث.
فالاستقرار والحضارة يمكن المحافظة عليهما فقط لا من خلال الالتزام الوثيق بالتراث والمعرفة التي وصلت من أجيال سابقة وأن أي تراخ في هذا يضعف الالتزام لدى المجموعة ويعرض للخطر جدواها الثقافية إلى حد تهديد وجودها ذاته». فهل يعني هذا أنه مع تطور الطراز المعماري في المملكة تغيرت الهوية؟ أو أن الهوية قد فقدت؟ فالعولمة كما يقول بعضهم (هوية بلا هوية). فالغرب يريد فرض نموذجه وثقافته وسلوكياته وقيمه وأنماط استهلاكه وكل ما شابه ذلك على الآخرين، خاصة أنها تستخدم قوى الإمبراطورية الإعلامية، أن العولمة الثقافية تعني السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات باستثمار مكتسبات العلوم الثقافية في ميدان الاتصال. والثقافة الأمريكية هي المسيطرة على الثقافة الغربية وإن أكثر ما يلفت الانتباه في ظاهرة العولمة المدى الذي بلغته الثقافة الأمريكية من انتشار وسيطرة على أذواق الناس مثل انتشار الموسيقى والأفلام الأمريكية ونمط الملابس وحتى نمط المعيشة فهذا يؤثر على رغبة الفرد العربي في تصميم منزله وعمارته بشكل عام.
و الذي لا يرمز للخصوصية. لأن ما فعلته التكنولوجيا سلبت المستهلك الفرد حتى استسلم لها، وسلبت لب الأمم فضمت الواحدة بعد الأخرى. وعندما تلحق الثقافة بالعولمة يتبادر إلى الأذهان كلمة جديدة أصبحت تتردد كثيراً في المؤتمرات والندوات العالمية مثل الأمركة، أي تعميم النموذج الأمريكي للحياة، والتسلع أي تعميم قيم السوق على الفعاليات الثقافية وتحويل الثقافة إلى سلعة وتهديد الهوية الثقافية. ولأن الثقافة في ـ النسق الفكري الإسلامي ـ : هي كل ما يسهم في عمران النفس وتهذيبها،لذا فإن الثقافة هي تهذيب النفس الإنسانية بالأفكار والعقائد والقيم والآداب والفنون وهي عمران للنفس والواقع. ولكن إذا تساءلنا عن هوية ثقافتنا العربية الإسلامية: هل لها تأثير ملموس على العمارة الحالية؟ باعتقادي أن ثقافتنا لا تأثير لها على العمارة في الدول العربية لأن العولمة تجبر على لون معين من الحضارة ولا حرية فيها حيث أنها ببساطة هي أكذوبة القوي على الضعيف، وهي استدراج له إلى ساحات معقدة من ساحات التعايش الممكن، في الوقت الذي يعلم فيه أنه لا يدرك من قوانين تلك الساحات أي شئ. ولكن ذلك لا يعني أننا يجب أن نقبل بأن العولمة ظاهرة التوحد الثقافي والاقتصادي وأننا في طريقنا إلى أن يصبح هناك ثقافة عالمية أو كونية شاملة وأن لاشئ قادر على الوقوف في طريقها وأن الثقافات التقليدية لن تصنع شيئاً أمام ثقافة العولمة، لأنه يجب أن يكون هناك إحياء للثقافات وإعادة استخدامها في العمارة بطرق تتماشى مع العصر، ولا يمنع الاستفادة من بعض الثقافات الأخرى ، ذلك يجب أن تكون الجمعيات كما قال (فرانسيس فوكوياما) مؤلف كتاب (نهاية التاريخ) حين قال أن العولمة تقود إلى التجانس الثقافي ويؤكد أن المجتمعات تحافظ على سماتها المنفردة رغم الضغوط الاقتصادية، وأكد: إن الكثيرين يعتقدون أننا لتقدمنا في مجال تكنولوجيا الاتصالات ولقدرتنا على إنشاء ثقافة تلفزيونية سائدة عالمياً، سيقود هذا إلى تجانس ثقافي أعمق.
ولكني أعتقد أن العكس تماماً هو ما حدث. وفي اعتقادي أنه لن نصل إلى امتلاك هوية مميزة إلا بعد إدراك تلك الحقيقة العامة المتمثلة في أن ما قدمه التراث الغربي من نظريات هي في عمومها نظريات غير صالحة للتطبيق علينا، وعدم صلاحيتها نابع من أن لكل مجتمع ظروفه وقيمه الخاصة. ونحن حينما نطبق تلك النظريات الغربية على أنفسنا نخطأ هذا الخطأ المزدوج، خطأ عدم التميز بين النظرية والتطبيق،وخطأ يتمثل في عدم الثقة بالنفس وبالتالي فقدان القدرة الذاتية على العطاء والإبداع والإضافة، لذلك يجب الفصل بين التقليد الأعمى والاقتباس من الحضارات الأخرى، لأن الاعتماد على الغرب لبناء الذات خاطئ. ولكن للأسف في عمارتنا المعاصرة هناك إقتداء واضح بثقافة الغرب لأن المغلوب دائماً مولع بالإقتداء بالغالب، فالثقافة في الأسلوب الذي يتم به العمران أو الاستحلاف أو إقامة الحضارة والمدنية حيث هو انعكاس للفلسفة المعاشة للجماعة المنشئة للحضارة، وإن كان هدف أو جوهر الحضارات واحداً وهو عمارة الأرض فإن العمارة تخدم الحضارة كثيراً حيث أنها تنقل المعلومات بطريقة سريعة وتتبادل المتماثل في السلع والخدمات وكأن العالم قرية صغيرة ومن المفروض أننا نسعى لوحدة الحضارات وتعدد الثقافات.
وذلك يؤدي إلى طرح سؤل مهم وهو مدى الحاجة للعمارة المحلية أو الإقليمية في عصر العولمة؟ يذكر م. سمير داوود أنه ربما يكون المعماريين في دولة الإمارات من أؤلئك المحظوظين على مستوى العالم الذين شهدوا الحركة العالمية وعولمة العمارة والتغيرات المدهشة للبيئة. فنرى مدينتي دبي وأبوظبي صممتا وبنيتا في اتجاهين متصارعين. فمن جهة هناك الاتجاه الذي اعتمد على نقل الأشكال الغربية أو حتى استعارة عناصر من العمارة التقليدية. ومن جهة أخرى هناك الاتجاه التقدمي المستقبلي الذي ركز على التقنية العالمية واستجلاب المعماريين العالميين. ولكن قد حان الوقت لتوحيد الحوار المعماري للوصول إلى تعريف مناسب للعمارة المحلية ولنماذج معمارية صديقة للبيئة. فاليوم أصبح الميول والمهارة الفردية في التصميم والوعي الشخصي للمعماري المحلي هي المهمة لتمكنه من إعادة تعريف وتحديد أهدافه. لذلك فإن المحافظة على البيئة المحلية تمكننا من المحافظة على هويتها المحددة وطعمها المحلي. فبينما يتعلم المعماريون المحليون من الممارسة العالمية يجب أن يكونوا كذلك قادرين في نفس الوقت على توحيد ومراقبة تدفق المعلومات للشبكة العنكبوتية والإعلام الكوني.
ومن المباني المعاصرة للعولمة والتي أعطت مدينة الرياض طابعاً مميزاً لها « برج الفيصلية» الذي صممه أحد أشهر المعماريين في العالم (نورمان فوستر) ومركز المملكة، فهما يرمزان لنمو مدينة الرياض ويرسمان التحول الجديد في مقياس المدينة من خلال تكوينه البصري ووظائفه المتعددة ومن ناحية توزيع الفراغ أفقياً في المجال العمراني. وهذا كله تأثر باستراتيجية تخطيط المدن الحديثة عند الغرب حيث الرغبة في الفصل الوظيفي بين نشاطات الإنسانية المتعددة مثل السكن والعمل والترفيه والنقل وهذا المبنيان أصبحا مثل المعلم الجديد Land Mark في مدينة الرياض، ولكن هل هما يرمزان أو يعبران عن هوية المملكة المعاصرة ؟ لا طبعاً أنا باعتقادي أنهما يرمزان للتقدم الذي تحظى به السعودية والثراء أو الاستقرار المادي والقوة والرغبة في مواكبة العصر لأن الهوية ليست كياناً يعطي دفعة واحدة وإلى الأبد إنما هي حقيقة تولد وتنمو وتتكون وتتغاير وتشيخ وتعاني من الأزمات الوجودية والاستلاب، فهناك آلية يمكن تسميتها المقاومة الثقافية ومهمتها المحافظة على الهوية المحلية لأن أخطر استعمار هو الاستعمار الثقافي الذي يقوض جذور الثقافة المحلية ومن المؤكد أن المقاومة الثقافية ستشتد في عصر العولمة.
ويؤكد هذا الرأي (الينور ماسبيني) الذي يرى المقاومة الثقافية على أنها «قدرة المرء على معرفة ثقافته واعتراض ما يمكن أن يؤذيها، وهذا لا يعني بالضرورة تدمير الثقافات الأخرى أو قبولها دون قيد وإنما أخذ ما هو مقبول منها مع الاحتفاظ بالقدرة على معارضته الهيمنة». ومن ناحية اقتصادية بحتة، بدأ العالم يتحول أكثر فأكثر إلى كيان اقتصادي واحد لا يمكن أن ينفصل عن أجزائه وأدى إلى ظهور شركات عملاقة جداً متعولمة. ويعرف د. عابد الجابري العولمة الاقتصادية (Commercial Globalization) على أنها تركيز النشاط الاقتصادي على الصعيد العالمي في أيدي مجموعة قليلة العدد وبالتالي تهميش الباقي وإحداث التفاوت مابين الدول حتى داخل الدولة الواحدة وبالتالي تعميم الفقر كنتيجة حتمية للتفاوت من خلال استعمال السوق العالمية فإن كل المؤشرات الموضوعية تشير إلى أن العولمة الاقتصادية هي الأكثر اكتمالاً وهي الأكثر تحقيقاً على أرض الواقع من العولمة الثقافية أو السياسية.
فالمعنى المنتشر للعولمة الاقتصادية هو تكامل الاقتصاديات المتقدمة والنامية في سوق عالمية وحدة مفتوحة لكافة القوى الاقتصادية في العالم مما يعني أن العولمة تشمل مرحلة جديدة في التدويل (Internationalization). لذلك فالعولمة جعلت أي حديث عن ماركة وطنية حديثاً بلا معنى . ولكن من المميزات البارزة للعصر الراهن الثورة العلمية والتقنية والتي تزداد كل يوم وهذا التقدم هو الذي جعل العالم أكثر اندماجاً وهو الذي سهل انسياب حركة رؤوس الأموال والسلع والخدمات وإلى حد ما حركة الأفراد. ولقد شكل هذا متغيرات في حياة البشرية أدى ذلك إلى تطور المجتمعات، نجم عنها تحسين مستوى المعيشة. وتقريب الاتجاهات العالمية نحو تحرير أسواق التجارة ورأس المال، وإتاحة فرص النمو الاقتصادي على المستوى العالمي، وزيادة الإنتاج المحلي والعالمي.
ولكن المعارضين للعولمة والغير متحمسين لها يرون أن أهداف العولمة وأثارها هي: الهيمنة على اقتصاديات العالم من قبل الولايات المتحدة من خلال السعي للسيطرة من قبل الاحتكارات والشركات الأمريكية الكبرى على اقتصاد الدولة، وإلغاء النسيج الحضاري والاجتماعي للشعوب، وتدمير الهويات القومية و الثقافية للشعوب وزيادة الدول الغنية غنا بينما تزداد الدول الفقيرة فقراً، ومن الأمور المزعجة في العولمة خاصة فيما يتعلق بالمجتمعات العربية هو التدخل الأجنبي وبالتحديد الأمريكي ويرجع ذلك إلى ما تملكه من تفوق عسكري وشركات عملاقة ومؤسسات دولية وتطور تكنولوجي واقتصادي قوي، لذلك فإن العولمة قد قتلت السوق الوطني الذي كان إحدى مركزات سلطة الدولة والأمة.
أنا لا أعارض العولمة ليس كما قال (شيلوكدوس بيز) الذي قال إنه من الواضح أن تكون ضد العولمة ، أنه منطقي تماماً كما تشتكي حيال الطقس الرديء)، ولا كما ذكر مصطفى النشار، بأن منطق القوة هو السائد في عصر ما يسمونه بالعولمة والكوكبية أو باختصار القطب الواحد لأن العولمة آتية قدر مصيري علينا جميعاً. والتفكير فيها ليس ضرورياً قبل أو بعد حول مساوئ الاقتصاديات المعولمة، إذ لا يمكن إيقاف العولمة. لذلك يجب على المرء أن يفعل الأفضل وهو الاستفادة من تقنياتها ومعلوماتها وسهولة حصولها. ومثالاً على الفائدة من العولمة الاقتصادية في المملكة العربية السعودية هي أعمال التوسعة المعمارية والإنشائية في الحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة حيث أن الأعمال الكهربائية ( التي تشمل الإنارة ومكبرات الصوت ونظام التحكم الأتوماتيكي) والأعمال الميكانيكية ( مثل أنظمة تكييف الهواء ، ومضخات شرب المياه المبرد وأنظمة مكافحة الحريق بالإضافة إلى شبكات صرف مياه الأمطار والصرف الصحي). وأيضاً استخدام التقنية في تصميم وإنشاء الحرم حيث الاستعانة بالحاسب الآلي لأخذ كل الاعتبارات اللازمة والعلاقات المعقدة بما في ذلك العوامل المتوقعة في المستقبل لإنجاز التصميم بدقة وسرعة فائقة .
والأهم من ذلك التقنية في تصنيع المواد حيث تم تحضير كميات هائلة من مواد كثيرة ومتنوعة للمشروع وذلك باستخدام أحدث التقنيات في العالم وأضخم المعدات المتوفرة وللمحافظة على المسجد فهناك التقنية في نظام إدارة الصيانة لتأمين الراحة والأمان للحجاج والمصلين. فكل ما ذكر يدل علي مدى التقدم التكنولوجي الذي وصل إليه العالم في عصر العولمة، وهذا في نظري لا يغير من هوية المسجد أو معناه بل يزيد من فعالية استخداماته لأن العناصر الأساسية التي ترمز للمسجد مثل المئذنة والقبة وساحة الصلاة موجودة في الحرم النبوي.